والفناء كلمة لم يأت بها كتاب ربنّا ولا سنّة نبينا -صلي الله عليه وسلم- وهي تحتمل حقا وباطلا، وقد بينّا فيما سبق شيئًا من الغلط الذي وقع فيه بعض النّاس. وقد غلا آخرون فزعموا أنّ الخالق حل في خلقه فلا موجود إلاّ الله، فوجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بن الرب والعبد، وهذا من أعظم الضلال!! وقد يظنّ ببعض الصالحين الأخيار أنّهم يذهبون هذا المذهب ويتجهون هذا الاتجاه، والأمر ليس كذلك، فإذا قال بعض الأخيار: ما أرى غير الله، أو لا أنظر إلي غير الله، ونحو ذلك فمرادهم بذلك ما أرى ربّا غيره، ولا خالقا ولا مدبِّرا غيره، ولا أقصد إلا هو (١).
فالخالق جل وعلا مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته جلَّ وعلا شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد اتفق السلف الصالح على وجوب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق.
فالفناء الذي يريده الصالحون أمثال الشيخ عبد القادر في قوله:"افن عن الخلق بحكم الله، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله ... ". وقوله:"فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم والتردد إليهم واليأس مما في أيديهم ... " - ليس هو الفناء المذموم، بل مراده ألا يكون للإنسان مراد إلا الله، ولا يقصد إلا ما يحبّه الله ويريده، فلا تكون للعبد إرادة لم يؤمر بها.
هذا مراد الصالحين الذين فقهوا عن الله وعن رسوله صلي الله عليه وسلم، وهذا الذي يسميه بعض الناس فناء هو حقيقة الِإسلام، وجوهر الِإيمان، وقطب القرآن، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وهو الذي أسميناه الإخلاص.
وتلك المعاني التي سمّوها فناء بعيدة عن جوهر الدين ومراد الله، والقول بها والتوجه إليها، ودعوة الناس إلى تحقيقها؛ سبَّب إشكالات وفسادًا عانى منه الصالحون طويلا.