للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا الحديث يدل على أن الأعمال لا تصح شرعا ولا تعتبر إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وكلمة (إنما) وضعت للحصر، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم فيها يوجب ألا يصح عمل من الأعمال الدينية: أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها؛ إلا بنية.

وظاهر الحديث ينفي وجود ذوات الأعمال التي تخلو من النية، وبما أن أعيان الأفعال الخالية من النيَّة موجودة في واقع الأمر فقد قرر كثير من الفقهاء (١) أن هذا الظاهر غير مراد، وأوجبوا تقدير محذوف، كي يستقيم الكلام، ثم إن بعض هؤلاء قدروا المحذوف: "صحة الأعمال"، وبعضهم قدره: (كمال الأعمال)، ذلك لأنهم رأوا أن بعض الأعمال لا تشترط في صحتها النيات كقضاء الحقوق الواجبة من الغصوب والعواري والديون، فإن مؤديها تبرأ ذمته منها، وإن لم يكن له في ذلك نية شرعية، بل تبرأ ذمته عنها من غير فعل منه.

وحجة الذين ذهبوا إلى تقدير الصحة أن نفي الصحة يشبه نفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ يدل بالتصريح على نفي الذات، وبالتبع على نفي جميع الصفات، فلما منع الدليل دلالته على نفي الذات بقي دلالته على نفي جميع الصفات. (٢)

والذي يظهر لي أن الحديث لا يحتاج إلى تقدير، لأن المراد بالأعمال: الأعمال الشرعية، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث لبيان الشرع، فالحديث يدل على أن الأعمال الشرعية توجد وتكون بالنيات، فإذا انتفت النيات من الأعمال انتفت الأعمال الشرعية، وهذا رأي نسبه صاحب دليل الفالحين إلى بعض المحققين،


(١) أمثال الخطابي وابن حجر والبيضاوي.
(٢) راجع في هذا الموضوع: معالم السنن (٣/ ١٢٩)، ومجموع الفتاوى (١٨/ ٢٥٢)، وفيض القدير (١/ ٣٠)، وفتح الباري (١/ ١٣).

<<  <   >  >>