التي أحق ما توصف به أنها سائلة من طرق الكلام، وأن أهلها صعاليك في طرق التاريخ!
والعربية قد غَنِيت بأواضعها حتى كأنها خلقت لتماد الزمن، وفيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، غير أنه قد أصابها ما أصاب أهلها من تبدد الكلمة واضطراب الأمر ووهن الاستقلال وتمزق المجتمع، فأصبحت بعدهم كأنها محكومة بقوة خفية لا يعرف ما هي ولا يظهر منها إلا أثرها الذي تتبينه فيما لحق اللغة من الضعف وما رهقها من العجز، وفي جمودها على حال واحدة كأنها مقبورة في كتبها منذ تراجع التمدن الإسلامي أيام العباسيين إلى قريب من هذه الغابة.
ومتى كانت اللغة صورة الأمة فإن كان ما يعتور هذه يتصل أثره بتلك ضرورة. ولذلك بقيت العربية في نفسها على مرونتها الأولى حتى يتاح لها أقوام كأولئك الأقوام، وتفيض لها أقلام كتلك الأقلام.
وليس من غرضنا أن نفيض هنا في هذه المعاني، وإنما تريد لنبين أنواع النمو في هذه اللغة، والطرق التي جرت عليها في الوضع؛ إذ لولا ذلك ما خطت اللغة في التاريخ خطوة واحدة.
طرق الوضع:
وأنت إذا تدبرت المأثور من ألفاظ اللغة، وجدته في الجملة لا يخلو من ثلاث: إما أن يكون مرتجلًا أو مشتقا، أو منقولًا على وجه من جوه المجاز؛ وهذه الثلاث هي طرق الوضع التي تقلبت عليها اللغة، وهي تشبه أدوار الخلقة الكاملة، فإنها ثلاثة أيضًا: التركيب، والقوة، والجمال؛ فالمجاز جمال اللغة، والاشتقاق قوتها، والارتجال تركيب الخلقة فيها؛ ويندر أن تجد ذلك كله في لغة من اللغات على مقدار ما تجده في العربية؛ فلا جرم كانت حرية بأن تكون مناط الإعجاز؛ لأنها الخلقة اللغوية الكاملة.
الارتجال:
وهو وضع اللفظ ابتداء في أول أمر اللغة بتقليد الطبيعة كما مر في موضعه؛ ولا يمكن أن يحاط بأوائل كلامهم، وعلى أي مقادير كانوا يضعونها، غير أنه مما لا شك فيه أنه لم يبق وجه للزيادة على ما ارتجلوه؛ لتقليبهم صور التراكيب المرتجلة على كل ما في آلات الصوت من المقاطع، بحيث لم يدعوا منها إلا المستكره المبذوء مما يتعتع به اللسان وينبو عنه السمع ولا يكون منه إلا تنكير الأسلوب وتغيير ديباجة اللغة؛ بيد أن هذا إنما هو في الارتجال الذي تراعَى فيه النسبة بين اللفظ الموضوع له، كمحاكاة الأصوات والحركات الطبيعية ونحوها، أما فيما عدا ذلك فإن العرب كانوا يتصرفون في لغتهم، فيرتجلون ألفاظًا قليلة ليست فيها ولا هي مأخوذة بالاشتقاق، كما يصنع كثير من العامة اليوم؛ فقد يتفق لأحدهم أن يضع كلمة يرتجلها لمعنى من المعاني على طريق التظرف والتملح، فلا تلبث أن تشيع وتصير من أصل اللغة؛ وكذلك كان يفعل العرب.
قال ابن جني فيما ينفرد به العربي من اللفظ ولا يسمع من غيره ما يوافقه ولا ما يخالفه: "إنه يجب قبوله إذا ثبتت فصاحته؛ لأنه إما أن يكون شيئًا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشاركه في