للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سماع ذلك منه أحد ... أو شيئًا ارتجله؛ فإن العربي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبيه١، أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعها ولا سبقا إليها. أما لو جاء ذلك عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته، فإنه يرد ولا يقول" ا. هـ.

ومهما يكن من ذلك فإن الارتجال أمر مفروغ منه؛ لأن تاريخ الشباب كله لا يقع فيه يوم واحد من عهد الطفولة.

الاشتقاق:

كل ما يوضع من اللغة ارتجالًا فإنها وضع لمناسبة بين الدال والمدلول على وجه من الوجوه؛ ولولا تحقق هذه المناسبة ما تأتى للواضع أن يشتق لفظًا من لفظ؛ لأن الأصل في الاشتقاق المناسبة في المعنى والمادة؛ فلولا اعتيادهم مراعاة المناسبة في الوضع الأول ما تنبهوا إليه في الوضع الثاني؛ لأن بعض الأشياء يدعو إلى بعض، والارتقاء سنة لا بد فيها من اطراد النسبة.

وعلى هذا أمكنهم أن يجعلوا كل مقطع من المقاطع الثنائية أصلًا في الدلالة، ثم يفرعون عنه بالاشتقاق معانيه الجزئية المختلفة التي ترجع في أصل الدلالة إليه؛ فكأن المعاني سلائل مرتبة تنحصر كل طائفة منها تحت جنس معلوم، على ما قرروه في مذهب النشوء والارتقاء. ولا يزال هذا التسلسل متحققًا في اللغات السامية الباقية إلى اليوم، وهو أظهر في العربية منه في أخواتها؛ حتى ذهب بعض العلماء الذين استقروا تراكيب اللغة إلى أن هذا الأصل مستصحب في كل تركيب، بحيث لا يخلو مما يرجعه إليه ولو تأويلًا من طريق المجاز، إلا ما تخلف عن سلسلته لأمر طارئ على أصل الوضع، كأن يكون مبدلًا من لفظ آخر، أو مقلوبًا عنه، أو داخلًا في تركيب المادة من لغة أخرى؛ لأن العلماء الذين دونوا هذه اللغة جمعوها من لغات كثيرة بعد أن تدخلت هذه اللغات بعضها في بعض، لتعاور العرب ألفاظها جميعًا؛ فخفي بهذا التداخل كثير من وجوه الوضع الاشتقاقي؛ أوضاع النقل كثيرًا من ألفاظ اللغة مما انثلمت به سلسلة أوضاعها فأصبحت بحيث لا يمكن أن يدل فيها على تحقق التسلسل إلا باعتبار الأغلب الأعم.

وقد نقلوا عن بعض المعتزلة أنه ذهب إلى أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع؛ وكأن بعض من يرى هذا الرأي يقول: إنه يعرف مناسبة الألفاظ لمعانيها، فسئل: ما مسمى "إذغاغ"؟ وهو بالفارسية الحجر؛ فقال: أجد فيها يبسًا شديدًا، وأراه الحجر.

أما خواص أهل اللغة والعربية فقد كادوا يطيقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، وقد عقد لها ابن جني بابا في "الخصائص" سنشير إليه عند الكلام على التمدن اللغوي.

وأول من ابتدع القول بأن المعاني سلائل مرتبة، وأن الألفاظ المختلفة ترد في الاشتقاق إلى قدر


١ رؤبة بن العجاج هو وأبوه راجزان مشهوران من العرب، وكان رؤبة خاصة بصيرًا باللغة قيمًا بحوشيها وغريبها، حتى لا يرون في التشبيه أن في معد بن عدنان أفصح منه؛ وتوفي رؤبة بالبادية سنة ١٤٥هـ عن سن عالية.

<<  <  ج: ص:  >  >>