وقد تتبع علماء اللغات بعض الحروف في اللغات السامية ليعرفوا من أين أخذت وكيف انتهت إلى العربية على هذا الوجه فاهتدوا من ذلك إلى بعض ما يرجح أنها منحوتة؛ ومن هذه الأمثلة التي عيّنوا أصلها، باء الجر؛ فإنها تستعمل في العربية لمعان كثيرة؛ كالإلصاق، والتعدية، والاستعانة ... إلخ، والأصل في ذلك الإلصاق كما نصوا عليه، ولكنها لا تستعمل في غيرها من اللغات السامية إلا للظرفية؛ فرأوا أن أصلها "بيت" في العبرانية، ثم جاءت "بي" في الكلدانية، ثم الباء وحدها في العربية، فكأن الباء بقية من لفظ "بيت" كمل بها المعنى الأصلي مع وجازة اللفظ وسعة التصرف؛ وهو بحث طريف ظريف.
المترادف:
وهو ترادف الفظين فأكثر على معنى واحد، كما تقول: السيف والعَضْب، والأسد والليث والغضنفر؛ والخمر والراح والعقار والقَرْقَف، ونحو ذلك؛ وقد وجدنا كلامهم في هذا النوع يرجع إلى أربعة مذاهب:
١- بعض العلماء ينكر أن يكون في اللغة ترادف مطلق؛ لأن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد، إذ لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة الحكيمة المحكمة.
وهؤلاء يرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة: وأشباع هذا المذهب كثيرون، منهم ابن الأعرابي، وثعلب، وابن فارس.
وقال ابن الأعرابي: إن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا علمه فلم يلزم العرب جهله. ومن أمثلة هذا الذي عرفوه وبينوا وجهه، قول العرب: قعد وجلس. وقال ابن فارس: إن في "قعد" معنى ليس في "جلس": ألا ترى أن نقول: قام ثم قعد، وأخذه المقيم والمقعد. ثم نقول: كان مضطجعًا فجلس، فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس؛ لأن الجَلَس "في اللغة": المرتفع، والجلوس ارتفاع عما هو دونه، وعلى هذا يجري الباب كله.
٢- بعضهم يذهب إلى إنكار الترادف مطلقًا بقيد الزيادة في معاني الألفاظ المترادفة وبدون هذا القيد: فيعتبر الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء: فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له: كالمهند والصارم والعَصْب ونحوها: ومن القائلين بهذا الرأي أبو علي الفارسي شيخ ابن جني.
وموضع الاختلاف بين هذا الرأي وما قبله، في اعتبار الفرق بين الاسم والصفة، فأصحاب المذهب الأول يعتبرون المترادفات اسماء تزيد معنى الصفة وهؤلاء يعتبرونها صفات محضة.
٣- والمذهب الثالث إثبات الترادف ولكنهم يخصونه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد، كما يقال أصلح الفاسد، ولم الشّعَثَ، ورَتَقَ الفَتْق، وشَعَب الصدع، ونحوها، أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد فيسمونه المتوارد: كالخمر والعقار، والليث والأسد،