للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الواحد باعتبار الأسباب الوراثية والآفات والعلل وما يكون من الإهمال والاستعمال، كما تختلف قوة وضعفًا في بعض أنواع المحفوظات دون بعضها، على حسب ما ركب في الفطرة وما تمس إليه الحاجة؛ فليس ما يحفظه الرياضي، بالذي يستطيعه المحدث أو اللغوي، ولا حفظ هذين كحفظ غيرهم من أهل الطبقات الأخرى، وهلم جرا. وإن نوادر الحفظ التي تُروى عن العرب إنما جاءت عن أفراد رزقوا سمو هذه القوة الطبيعية، وتفرغوا لها برهة العمر مما يشغل الذرع، ويملك الطاقة، ويقسم القلب، ويشعث الفكر؛ فلم يكن من العجيب أن يحفظوا ما حفظوه، ولكن العجيب أن لا يكونوا قد حفظوا أكثر من ذلك؛ فأولئك قوم هيأهم الله لما برعوا فيه بالأسباب الآخذة إليه، والعلل المقصورة عليه؛ فاجتمعت له أنفسهم، وتوفرت قواهم، وفرغت أذهانهم؛ حتى لم يكن من هم أحدهم إلا أن يرى نفسه شخصًا للعلم الذي هو بسبيله، فيقال فلان صاحب الفن والفن هو فلان.

دع عنك ما كان على الناس من مؤنة الكتابة في القرن الأول وبعض الثاني إذا ابتغوا أن يتكلوا على الخطوط ويدونوا ما يقع إليهم من فنون العلم تدوينًا يغنيهم عن الحفظ ويجزئ ما تجزئه المؤلفات المعدة للمراجعة والتصفح؛ إذ كانوا إنما يكتبون على الرقاع واللخاف "حجارة بيض رقاق عراض" وعسب النخل والجلود والعظام ونحوها، مما يأتي على ما فيه أيسر أسباب التلف أيها كان؛ واستمروا يكتبون بعد الإسلام على الجلود، والرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد، وعلى الورق الصيني وغيره نادرًا، إلى آخر عهد الأمويين؛ فلما كان زمان "السفاح" أول الخلفاء العباسيين "توفي سنة ١٣٦هـ" غير وزيره خالد بن برمك "توفي سنة ١٦٣هـ" الدفاتر من الأدراج "لفائف الجلد" إلى الكتب؛ ولكنها كانت كتبًا من الجلد، وبقيت كذلك حتى اتخذ الفضل بن يحيى البرمكي هذا الكاغد "الورق" وأشار بصناعته؛ فشاعت الكتابة فيه مع الجلود والقراطيس وأصناف أخرى من الورق الصيني والتهامي والخراساني؛ واتخذ الناس من ذلك الصحف والدفاتر، ومن ثم تمت لهم أدوات التأليف، ولكن بعد أن استبحرت فنون الرواية ودرج أهلها على الحفظ ورأوا فيه صلاح الأمر وسداد الرأي وبلغوا منه كل مبلغ؛ وإنما كانوا يكتبون قبل ذلك في الرق لكثرة الحفظ وقلة الرسائل السلطانية والصكوك، فلما طما بحر التآليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه ضاق الرق عن ذلك فلم يكن لهم بد من تلك الصناعة.

ويبتدئ تاريخ الحفاظ المعدوديين في الإسلام بعبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ فقد كان لا يدور في مسمعيه شيء إلا وعاه وأثبته، وقد مر بك الخبر الذي رد فيه قصيدة ابن أبي ربيعة ولم يكن سمعها إلا تلك المرة صفحًا؛ فلا جرم أن كان صدره رضي الله عنه خزانة العرب، إليه مرجعهم في التفسير والحديث والحلال والحرام والعربية والشعر؛ لو صحت نسبة ما رواه بعض الرواة عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس من أنه قال: إنه يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء١،


١ يتناقل العلماء أيضًا خبرين غير هذا وهما بسبيل منه في التقسيم: أحدهما عن أصحاب الآلاف، والآخر عن أصحاب المئات؛ وذلك كله فيما نرى من موضوعات الصوفية: يزعمون مرة أنه من الجفر الجامع الذي حوى أخبار الدنيا ولا يطلع عليه إلا أهل الكشف منهم -وللكلام على الجفر تاريخ لم يسعه المقام- ومرة يردون=

<<  <  ج: ص:  >  >>