للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكان ابن عباس نفسه صاحب السبعين الأولى في الإسلام؛ أما إن كان الخبر من أكاذيب عكرمة، فيكون قد وصف به أستاذه ابن عباس أصدق الوصف.

ثم كان بعد ابن عباس الشعبي من التابعين، وكان يقول: ما كتبت سوادًا في بياض إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد بحديث قط إلا حفظته! وفساد الحفظ في كثير من طبقة التابعين، وإنما نوهنا بالشعبي لأنه أوحدهم في حفظ الأدب، كما أنه أوحدهم في حفظ الحديث؛ وقد صار في التفنن مثلًا دائرًا على الألسنة، وكان يقول: لست لشيء من العلوم أقل رواية من الشعر، ولو شئت لأنشدت شهرًا ثم لا أعيد بيتًا واحدا.

وما أظلهم القرن الثاني حتى كثر الحفاظ واتسعوا في فنون المحفوظ، وخاصة بعد أن نشأ الإسناد واشتغلوا بطرقه؛ والإسناد إنما يعتبر به اتصال السماع، فهو راجع إلى التلقي والتلقين، ونحن نرى أن لولا حفظ الحديث ما اشتغلوا بالإسناد، ولولا الإسناد ما ثبتوا على الحفظ، وقد وجدا في الرواية جميعًا وذهبا جميعًا.

وبعد، فقد كان التدبير عندما أجمعنا النية على كتابة هذا الفصل؛ أن نفيض في ذكر الحفاظ جيلًا بعد جيل إلى سقوط الرواية، ثم نستقصي أسماء من اشتهروا منهم بعد ذلك إلى هذه الغاية ممن وقفنا على أخبارهم في بطون الكتب، ولكنا رأينا الشوط بطينًا والمادة حافلة وفي دون ذلك بلاغ، فاجتزأنا بالنتف والنوادر مما يتعلق بالأدب دون الحديث١؛ تفاديًا من أن يعد ذلك منا في الحشد


= ذلك في الرواية إلى ابن عباس نفسه؛ لأنهم وضعوا عليه أشياء كثيرة ونحلوه أمورًا من الغيبيين: الماضي الذي لم يدركه التاريخ، والآتي الذي هو تاريخ في علم الله. أما خبر الآلاف فهو ما يزعمون من أن الله يبعث على رأس كل ألف سنة نبيا، ويذكرون أن الدنيا أسبوع من أسابيع الآخرة: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} فيكون عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، بعث في الألف الأولى آدم، وفي الثانية إدريس، وفي الثالثة نوح، وفي الرابعة إبراهيم، وفي الخامسة موسى وفي السادسة عيسى، وفي السابعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وأما خبر المئات فهو الأخ الصغير لذلك الخبر، قالوا: إن الله بعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدده لها دينها: فكان على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية الشافعي -وقيل المأمون العباسي- ولم تقف على مبعوثي المائتين الثالثة والرابعة. وقال الغزالي عن نفسه إنه المبعوث على رأس الخامسة. وقالوا: إن ابن العربي هو المبعوث على رأس السادسة. وابن دقيق العيد في السابعة؛ وعمر البلقيني في الثامنة؛ وقال السيوطي عن نفسه: إنه صاحب التاسعة، ثم لم يعد أحد يقول، والله أعلم.
١ لما كان الحديث مبينًا على الإسناد، كان الحفظ فيه أثبت والحافظ له أكثر، فهناك حفظ الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال ووفياتهم وطبقاتهم، ومتون الأحاديث والسنن، ثم ما يتبع ذلك من جمل العلوم الأخرى التي لا بد للمحدث منها. وينبغي لمن يقرأ أخبار الحفاظ من أهل الحديث أن لا يبادر بالإنكار ولا يجزم بالمبالغة في الأخبار، فإذا رأى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يحفظ ألف ألف حديث وأبا زرعة سبعمائة ألف حديث "وأبو زرعة هو الذي سئل عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث وتطلق امرأته؟ قال: لا! " وإن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث من حفظه, إذا رأى ذلك وما إليه فلا يتوهمن أن كل هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشك في صحته ويستريب بما رأى، وإنما يتبعه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلًا وتقريرًا وصفة، ويداخله شيء كثير من آثار الصحابة؛ لأن غرض الراوي بيان الشرع؛ وقد نقل ابن حجر في "طبقات الصحابة" أن عدد الصحابة ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وسمع منه ونقل عنه، مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، رضي الله عنهم؛ فانظر ما يكون مبلغ ما يروى عن هؤلاء.
وذلك كله غير الموضوعات، ولا بد منها للمحدثين ليصونوا بها الصحيح وليتكلموا في عللها وأسانيدها، وهو شطر من علم الرواية، وعلى أن ابن حنبل يحفظ مليون حديث فإنه لم يذكر في مسنده إلا خمسين ألفًا، وقيل إنه يحفظ مائة وخمسين ألفًا بالأسانيد والمتون، والباقي من أخبار الصحابة وغيرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>