ذكروا عن حماد الراوية المتوفى سنة ١٥٥هـ "وهو أول من خصص بلقب الراوية من الأدباء" وكانت ملوك بني مروان تقدمه وتؤثره وتسني بره, أن الوليد بن يزيد قال له يومًا: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الرواية؟
قال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم مم تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا ينشدني أحد شعرًا لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث.
قال: إن هذا العلم وأبيك كثير؛ فكم مقدار ما تحفظه من الشعر؟
قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة سوى المقطعات من شعر الجاهلية.
قال: سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهلين!
وروي عن الطرماح الشاعر أنه قال: أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:
بان الخليط بسحرة فتبددوا
وهي ستون بيتًا، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد؛ ثم أقبل علي فقال: هذه لك؟ قلت: نعم! قال: ليس الأمر كذلك! ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها في وقته، فقلت: له: ويحك! إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد! فقال: قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي....! فقلت: لله علي حجة أحجها حافيًا راجلًا إن جالستك بعدها أبدًا!
وكان الأصمعي "المتوفى سنة ٢١٥هـ" آية في سرعة الحفظ والتعلق: كان يحفظ ست عشر ألف أرجوزة دون الشعر والأخبار، وذكروا أنه لما قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قومًا من أهل الأدب؛ فأحضر أبا عبيدة، والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي، وأبا بكر النحوي؛ فابتدأ الحسن فنظر في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها، فكانت خمسين رقعة، ثم أمر فدفعت إلى الخازن، ثم أقبل عليهم فقال: قد فعلنا خيرًا ونظرنا في بعض ما نرجو نفعه من أمور الناس والرعية فنأخذ الان فيما نحتاج إليه؛ فأفاضوا في ذكر الحفاظ، فذكروا الزهري، وقتادة، ومروا؛