للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صاحب "القاموس" المتوفى سنة ٨١٧هـ، فقد كان سريع الحفظ آية في الذكاء، كان يقول: لا أنام إلا بعد أن أحفظ مائتي سطر؛ وكانت ولادته سنة ٧٢٩هـ فلو قضى قريبًا من نصف هذا العمر لا يحفظ كل يوم إلا ما شرط على نفسه على أن يهمل أيامًا كثيرة، لكان مبلغ حفظه مائة ألف ورقة أقل ذلك١؛ وعلى أن هذا المحفوظ ما يختاره من عيون اللغات والآداب والفنون دون المألوف من ذلك كله؛ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [غافر: ٢] .

ونقف عند هذا الحد مكتفين بما تقدم وإن كان غيضًا من فيض؛ فإن الاستقصاء يمد في كل صفحة من هذا الفصل بابًا، ويجعل من الفصل كله كتابًا؛ بيد أنه لا يفوتنا أن ننبه في هذا الموضع على أصل من أصول التاريخ العلمي في الإسلام؛ وذلك أن كثرة المؤلفات العربية على امتداد النفس في أكثرها وتوفير أوراقها وتعدد أجزائها وامتلاء مادتها واستغراق أبوابها، وعلى ما فيها من سمو العبارة ومتانة التركيب وبلاغة الأداء وحلاوة الكفاية واتساق القول واطراد ينبوعه, كل ذلك إنما جاءهم من الحفظ، وهو نتيجة الرواية؛ فترى الواحد منهم يملي المجالس الحفيلة بأنواع الآداب من حفظه ثم يكتبه السامعون، فتخرج منه الأجزاء الكثيرة الممتعة؛ وإذا ألف استملى من حافظته فأمدته وسالت على قدمه، فهو يجمع ويرتب ويستخرج من فكره، وليس أسرع من حركة الفكر؛ وهذه السرعة هي التي تخرج لهم ما تخرجه من آثار الصناعة المتقنة على ما فيها من الجمال والكمال؛ فهم يستعينون في أعمالهم بالأدوات العقلية الحية التي تشبه الآلات الكهربائية في معجزات الصناعة الحديثة. ولا سواء من يكون كذلك ومن لزمه من أيسر مؤنة العمل كد الفكر واستحثاث الخاطر وكثرة الإطراق وتقطيع الوقت في البحث والتفتيش، ثم يخرج من ذلك على حسرات يرسلها وراء ما ند عنه مما لا تصل يده إليه في الأصول والأمهات من كتب القوم؛ وبعد هذا كله لا يكاد يجد في مدته ما ينفقه على وجوه الإتقان الصناعي في عمله إن خرج قصدًا أو مقاربًا.

فلا سبيل إلى إحياء العربية وآدابها إلا بإحياء سنة الحفظ والرجوع إلى طريقة الرواة في التعليم، وهي هي الطريقة الجامعة "الإنسكلوبيديا" التي بها العلم في أوروبا وأمريكا، وكل سبب يغني شأنه إن أريد به الغناء، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: ٥٤] .


١قدر ابن النديم في "الفهرست" ما ذكره من المؤلفات بعدد الأوراق، يريد بها الورقات السلمانية، ومقدار ما في الصفحة "الوجه الواحد" منها عشرون سطرًا. وقدر كتاب "الأغاني" المطبوع في واحد وعشرين جزءًا بخمسة آلاف ورقة من ذلك الغرار، وقد جرينا على هذا التقدير، فيكون أقل ما يحفظ صاحب القاموس عشرين كتابًا في حجم الأغاني، وذلك لا يبلغ ثلث حفظ ابن الأنباري.

<<  <  ج: ص:  >  >>