للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: فما فعلت امرأته التي كانت تشاره وتماره وتهاره وتضاره؟

قال: طلقها وتزوجت غيره فرضيت وحظيت وبظيت١؟

فقال أبو الأسود: قد علمنا رضيت وحظيت وبظيت!

قال: بظيت حرف من "الغريب" لم يبلغك!

فقال أبو الأسود: يا بني، كل كلمة لا يعرفها عمك فاسترها كما تستر السنور خزءها!

وأشهر من عرف بالغريب يومئذ، يحيى بن يعمر العدواني، وهو آخر أصحاب أبي الأسود كما سنبينه.

ثم لما اتسعت العربية وفشا اللحن وفسد الكلام وجعل الناس يبغونها عوجًا، وذلك في أواخر القرن الثاني، وخرج الرواة إلى البادية ينقلون عن العرب ويتحققون معاني العربية وأبوابها؛ تهيأت أسباب المعنى اللغوي وصارت اللغة لغتين: العربية، والمولدة. بل صارت العربية نفسها كأنها في الاعتبار العلمي لغتان، بما قام بين البصريين والكوفيين، وتحقق كلتا الطائفتين بمذاهب متميزة، فمن ثم وجد الناس السبيل إلى تسمية ما يؤخذ عن العرب "باللغة"؛ لأنها صارت من "العهد الذهني" بعد اشتغال العلماء بها وبعد تميزها عما انتهت إليه لغتهم المولدة.

فلما وضع الخليل بن أحمد كتاب "العين" الذي رتب فيه كلام العرب وضع به علم اللغة، وتمت هذه الكلمة على الناس بما صنع.

بيد أن الرواة، وهم القائمون بفنون اللغة، لم يكن يطلق على أحد منهم لفظ "اللغوي" إلا بعد أن ضعفت الرواية في أواخر القرن الثالث، وذلك لأن أحدًا منهم لم يتخصص من الرواية بعلم الألفاظ دون سائر فنونها من الخبر والشعر والعربية ونحوها، ولم نقف على هذا اللقب "اللغوي" في كلام أحد من علماء القرون الثلاثة الأولى، وقد كان يوجد في الرواة من تغلب عليه النوادر، وهي أساس علم اللغة: كأبي زيد الأنصار المتوفى سنة ٢١٦هـ، وكان أحفظ الناس للغة وأوسعهم فيها رواية وأكثرهم أخذًا عن البادية، ومع ذا فلم يلقبوه باللغوي، ووجد فيهم كذلك من انفرد بأولية التصنيف في بعض الأنواع اللغوية المحضة: كقطرب المتوفى سنة ٢٠٦هـ وهو أول من ألف المثلث من الكلام، وكان يرمي بافتعال اللغة أيضًا -كما سيجيء- ولكن لم يلقبه أحد "باللغوي"؛ وعندنا أن هذا اللقب إنما ظهر في القرن الرابع بعد أن استفاض التصنيف في اللغة وتميزت العلوم العربية واستعجمت الدولة فصار صاحب اللغة يعرف بها كما ينسب كل ذي علم إلى عمله الغالب عليه، وخلف ذلك اللقب لقب الرواية؛ وممن عرفوا به في القرن الرابع: أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب "مراتب النحويين"، وابن

دريد صاحب "الجمهرة"، والأزهري صاحب "التهذيب"، والجوهري صاحب "الصحاح"، وغيرهم. ثم فشا بعد ذلك وأكثر أصحاب الطبقات من استعماله خطأ، حتى وصفوا به صدور الرواة؛ لأنهم لا يرون فيه أكثر من المعنى العلمي، أما الألفاظ بفروقها فهي ألفاظ الناس جميعًا، فلا تاريخ لها إلا التاريخ كله، والله أعلم.


١ في هذا الخبر رواية أخرى يسندونها إلى الأصمعي، قال فيها الغلام لأبي الأسود عن بظيت: "إنها حرف من العربية لم يبلغك" على أننا نوثق رواية الجاحظ لأن لفظ "العربية" أطلقه أبو الأسود على النحو وعرف به النحو في عصره وبعد عصره أيضًا، ولكن الرواة لم يكونوا يباليون بالفروق التاريخية بين الألفاظ، وهذا بعض ما نعانيه من إهمالهم، عفا الله عنهم وأثابهم بما أحسنوا!

<<  <  ج: ص:  >  >>