للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الكلمات التي يكذب فيها الأعراب١، أو توضع إرادة اللبس والتعنيت، وإلا ما يكون من خطأ بعضهم ومكابرته في الاحتجاج له، كما سيأتي مع نظائره في الكلام على وضع الشعر.

وأول من رمي بافتعال اللغة وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة ٢٠٦هـ، وكان يرى رأي المعتزلة النظامية، فأخذ عن النظام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثقوه في الرواية؛ قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قمطرًا "أي: ملء صندوق"، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئًا.

واتهموا بالصنعة وتوليد الألفاظ، ابن دريد صاحب الجمهرة المتوفى سنة ٣٢١هـ؛ لأنه كان مدمنًا للخمر لا يكاد يفتر عن ذلك. قال الأزهري اللغوي: وقد سألت عنه إبراهيم بن عرفة "يعني نفطويه" فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته٢.

وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة ٣٤٥هـ وكان واسع الحفظ جدا، حتى قيل إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة وتلك لعمر الله مظنة. وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه؛ فيقولون: لو طار طائر في الجو قال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئًا! ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مرد التهمة إلى سعة حفظه، ثم أثبت هذا الحفظ فنفى التهمة وقال: رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه وضعه فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروى أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها فإنه يجيب بشيء آخر؛ فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب؟ فذكر شيئًا قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث فوضعنا رجلًا غير ذلك فسأله فقال: ما القنطرة؟ قال: أليس قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا فقلت هي كذا؟ فما درينا من أي الأضمين نعجب من ذكائه: إن كان علمًا فهو اتساع طريف، وإن كان كذبًا في الحال فحفظه فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة فأجاب بذلك الجواب فهو أطرف.


١ مما يروونه: أن رؤبة قال ليونس بن حبيب المتوفى سنة ١٨٣هـ، وكان يسأله عن بعض الغريب: "حتام تسألن عن هذه الخزعبلات وأزخرفها لك؟ أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك؟ ".
٢ دفع بعض العلماء ذلك عن ابن دريد بما كان بينه وبين نفطويه من المنافرة حتى قال ابن دريد يهجوه من أبيات:
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخًا عليه
يريد "النفط" ولفظ "وبه" وكان الصياح على الموتى بهذين اللفظين "واي وي" وأول من صاح بذلك في الإسلام أم عبد المجيد الثقفي صاحب ابن مناذر الشاعر أيام الرشيد العباسي حين مات عبد المجيد، وكان من أجمل الفتيان جمالًا. وذلك في خبر ليس هذا موضعه.
والمحدثون يرون أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يقدح في العدالة، وقد جاراهم أهل الأدب حتى قالوا: "إن المعاصرة حجاب".

<<  <  ج: ص:  >  >>