وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد غلامًا تركيا مملوكًا يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا وكان يملي كتاب "الياقوتة"، فلما جازه قال: اكتبوا "ياقوتة خواجا" الخواج في أصل اللغة الجوع؛ ثم فرع على هذا بابًا وأملاه؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه. وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها؛ فإن بين العلم المستطيل والحفظ المتسع موضعًا لبسط اللسان إذا أراد قائل أن يقول.
وأشهر من عرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي الذي ورد الأندلس في حدود سنة ٣٨٠هـ على المنصور بن أبي عامر؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو المومأ إليه؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه؛ ولذا نظروه في الأندلس في سرعة الجواب وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق؛ وادعى في الأندلس علم الغريب؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين.
قالوا: ودخل مرة على المنصور وفي يده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه "القلب والتزبيل" وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع؛ فقال له المنصور: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب كتاب "القوالب والزوالب" لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع؛ هكذا هكذا! فقال له:"أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا إلخ، وإنما صنعت لك هذه الترجمة مولدة من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب ونسبته إلى عاملي لأختبرك! " فجعل يحلف له أنه ما كذب وأنه أمر وافق. وله من هذا كثير.
وقال ابن بسام: إن المنصور أراه كتاب "النوادر" لأبي علي القالي، فقال: إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابًا أرفع منه وأجل، لا أورد فيه خبرًا مما أورده أبو علي! فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة على كتابه المترجم "بالفصوص" فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم؛ وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جلدتها حتى توهم القدم، ففعل ذلك وترجم عليه:"كتاب النكت، تأليف أبي الغوث الصنعاني" فترامى عليه صاعد حين رآه وجعله يقبله وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان؛ فأخذه المنصور من يده خوفًا أن يفتحه وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلام يحتوي؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئًا؛ ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر؛ فقال المنصور: أبعد الله مثلك؛ فما رأيت أكذب منك! وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب الفصوص في النهر١.
وكان أبو صاعد هذا قوي البديهة في الشعر، يضع لسانه منه حيث يريد، وهو صاحب البيت
١ قال ابن بسام: ما أظن أحدًا يجترئ على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي في "الفصوص" إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان ينتفق به من الكذب.