للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جميعًا يخشعون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم، وهذا المعنى هو مناسبة التركيب في أحرف الكلمة، الواحدة، ثم ملاءمتها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساق الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون الذي يصب في الأذن صبا، فيجري أضعفه في النسق مجرى أقواه؛ لأن جملته مفرغة على تناسب واحد.

وقد استوفى القرآن أحسن ما في ذلك اللغات من ذلك المعنى، وبان منها بهذه المناسبة العجيبة التي أظهرته على تنوعه في الأوضاع التركيبية مظهر النوع الواحد وهي مناسبة معجزة في نفسها؛ لأن التأليف بين المواد المختلفة على وجه متناسب ممكن، ولكن التأليف بينها على وجه يجمعها ويجمع الأذواق المختلفة عليها كما اتفق القرآن, أمر لا يقول بإمكانه من يعرف معنى الإمكان, وسنفصل ذلك في موضع هو أملك به متى انتهينا إلى القول في حقيقة الإعجاز.

أما اللغات التي نزل بها القرآن غير لغة قريش، فهي لغة بني سعد بن بكر الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعًا فيهم، وهي إحدى لغات العجز، من هوازن، ثم سائر هذه اللغات وهي جشم بن بكر، ونصر بن معاوية وثقيف، وتلك هي أفصح لغات العرب جملة، ثم خزاعة، وهذيل، وكنانة، وأسد وضبة، وكانوا على قرب من مكة يكثرون التردد إليها ومن بعدهم قيس وألفافها التي في وسط الجزيرة١.

قال بعض العلماء: وقد كانت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} أي: لا ينقصكم بلغة بني عبس، ونقل الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر أن في القرآن من أربعين لغة عربية، وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وتميم، وكندة، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعمر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة. ا. هـ.

ولا سبيل إلى تحقيق ذلك؛ لدروس هذه اللغات وتداخلها وتقطع أسباب المقارنة بينها وبين لغة قريش التي مضوا على استعمالها بعد القرآن وأطبقوا عليها، والعلماء إنما يذكرون من أكثر هذه اللغات في القرآن الكلمة والكلمتين، إلى الكلمات القليلة؛ وانظر أين يقع مبلغ ذلك من لغة بجملتها؟

ولقد ائتلفت لغة القرآن الكريم على وجه يستطيع العرب أن يقرءوه بلحونهم وإن اختلفت وتناقضت؛ ثم بقي مع ذلك على فصاحته وخلوصه؛ لأن هذه الفصاحة هي في الوضع التركيبي كما أومأنا إليه آنفًا، وتلك سياسة لغوية استدرج بها العرب إلى الإجماع على منطق واحد ليكونوا جماعة واحدة، كما وقع ذلك من بعد؛ فجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام، كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام؛ وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم، وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهمو وعنهمو، وإلحاق الياء في إليه وعليه وفيه،


١ تكلمنا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب عن أفصح قبائل العرب، فارجع إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>