للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونحو ذلك، فكان أهل كل لحن يقرءونه بلحنهم.

وربما استعمل القرآن الكلمة الواحدة على منطق أهل اللغات المختلفة فجاء بها على وجهين لمناسبة في نظمه: كبراء، وبريء، فإن أهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، لا يعدونها، وتميم وسائر العرب يقولون: أنا منك بريء، واللغتان: في القرآن. وكذلك قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ، قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فإن الأولى لغة قريش؛ يقولون: أسريت؛ وغيرهم من العرب يقولون: سريت، وهذا باب من اللغة لم يقع إلينا مستقصى؛ ولكن علماء الأدب ربما أشاروا إلى بعض ألفاظه في كتبهم، كما تصيب من ذلك في "الكامل" للمبرد وغيره١.

وبالوجوه التي أومأنا إليها تختلف القراءات على حسب الطرق التي تجيء منها؛ فالناقلون عمن قرأ بلغة قبيلة ينقلون بتلك اللغة في الأكثر، ولذا قيل: إن القراءات السبع متواترة فيما لم يكن من قبيل الأداء أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها فغير متواتر، وهو الوجه المتقبل.

ولقد أحصى علماء القراءة في كتبهم ما ورد من ألفاظ القرآن على أحد تلك الوجوه، ومن قرأ بها كلها أو بعضها من الأئمة، وهي عناية ليس أوفى منها، ولا يعرف من مثلها لغيرهم ولغير أهل الحديث في أمة من الأمم: غير أنهم -عفا الله عنهم- أسقطوا من كتبهم كل ما يتعلق بالنسبة التاريخية في اللغات نفسها، إلا ما لا حفل به، وقد أشبعنا القول من هذا المعنى ومن الحسرة عليه في باب اللغة من التاريخ، ولكن القول منهم لا يزال يشره فيسيل به لعاب القلم, كلما توهم لذة الفائدة وطعمها!.


١ قد تتبعنا نسبة هذه اللغات وتقصينا في ذلك حتى ظفرنا بها؛ لأن هذا من أكبر ما نعنى به كما بينا في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب. فتخفيف الهمزة لغة قريش وأهل الحجاز، والتحقيق لغة من عداهم, وقيل: إن أهل مكة وحدهم يهمزون النبي، والبرية، والخابية، والذرية، ويخالفون في ذلك سائر العرب.
وكانت العرب تمد عند الدعاء، وعند الاستغاثة، وعند المبالغة في نفي الشيء. والمد هو زيادة مط في حروف المد على المد الطبيعي فيه. والقصر: ترك تلك الزيادة، وكلاهما اعتبار لا يختص به قوم دون قوم.
والفتح لغة قريش، والإمالة لغة بني سعد، وقد سبق الكلام عنهما وعما بينهما في اختلاف لغات العرب من الجزء الأول من التاريخ.
والإظهار لغة أهل الحجاز، والإدغام لغة تميم، ولعل إشباع الضمائر مختلف في بعض اللغات القريبة من اليمن عن الحميرية، فإن ضمير المفرد المتصل فيها ينطق "هو" بالمد والإشباع فيقال في "لغته": لغتهو. وضمير المثنى المتصل فيه ينطق "همي" فيقال في "لغتهما": لغتهمي، وضمير الجمع "همو" فيقال: لغتهموا، وهكذا.
وثم وجه لغوي آخر، وهو التفخيم أي: تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها وأفخم، ومن ذلك في القرآن: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة} ، وأشباهه، فإن هذا تفخيم وتثقيل، قال أبو عبيدة: أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفًا واحدًا وهو "عشرة" فإنهم يجزمونه، وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا هذا الحرف، فإنهم يقولون عشرة "بكسر الشين". وما فسرناه من أمر التفخيم إنما هو على بعض معانيه اللغوية؛ لأن له في الاصطلاح غير هذا المعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>