للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللغة١، وإنما جعلها سبعة رمزًا ما ألفوه من معنى الكمال في هذا العدد، وخاصة فيما يتعلق بالإلهيات: كالسموات السبع، والأرضين السبع، والسبعة الأيام التي برئت فيها الخليقة وأبواب الجنة والجحيم، ونحوها، فهذه حدود تحتوي ما وراءها بالغًا ما بلغ؛ وهذا الرمز من ألطف المعاني وأدقها: إذ يجعل القرآن في لغته وتركيبه كأنه حدود وأبواب لكلام العرب كله٢، على أنه مع ذلك لا يبلغ منه شيء في المعارضة والخلاف، وإن تماد العرب في ذلك إلى الغاية، إذ هو لغات تنزل من أهلها منزلة السموات ممن ينظرونها، والأرضين ممن يضربون فيها، وهلم إلى آخر هذا الباب، فذلك قولهم بأفواههم، وهذا قول الله الذي يكابرون فيه ويطمعون أن يسامتوه بأقوالهم، وما لهم منه إلا أن يهتدوا به وينتفعون بما فيه كما ينتفعون بالسماء والأرض دون أن يكون لهم من أمرهما شيء. ثم أشار أفصح العرب صلى الله عليه وسلم بظهر كل حرف وبطنه وحده, ومطلع كل حد إلى حقيقة هذا الإعجاز، فإن ظاهر القرآن على أي لغة قرئ بها من لغات العرب إنما هو ظاهر تلك اللغة بعينها، ولكن باطنه صورة السماء في الماء، ومسميات إلهية لا تنال وإن نيلت الأسماء، ثم إن لكل لغة في امتزاجها بالقرآن حدا يقف عنده أهلها، وهو الحد الذي تبتدئ منه الجنسية اللغوية، ولكل حد من هذه الحدود مطلع يصدر منه إلى مرتقى هذه الجنسية التي كان القرآن أخص مقوماتها، وذلك في جملته إنما هو الإعجاز كله، والهدى كله، والكمال كله.


١ أما بعد الإسلام فخصوا لفظة الحرف من القرآن بكل كلمة تقرأ منه على الوجوه، فيقولون هذا حرف ابن مسعود مثلًا، يعنون قراءته.
٢ ألف الأديب الصفدي كتابًا في عدد السبعة لكماله وشهرته سماه "عين النبع على طرد السبع"، ومما قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله؛ لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج فيها أول وثان، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثان، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثاني، أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كان سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد، مع الستة التي هي عند الحكماء عدد تام، يكون منهما السبعة التي هي عدد كامل؛ لأن الكمال درجة فوق التمام. وهذه الخاصة لا توجد في غير السبعة. ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية وتسعة وعشرة إلخ. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
ثم ساق أمثلة من استعمال الناس لفظ السبعة في كل ما يريدون به الكمال.
قلنا: وهذا الذي اعتل به لإدخال الواو في قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس بشيء وإنما وجه به كلامه توجيهًا، أم الصواب فإن الواو إنما كانت في هذه الجملة دون غيرها مما تقدمها، لتؤذن بأن الذين قالوا إنهم سبعة كانوا على ثقة مما قالوه ولم يرجموا بالغيب، ولهذا فصلوا بين القوم وبين كلبهم الذي ليس فيهم إلا في العدد؛ وارتفاع هذه الواو من الجملتين الأوليين جعلهما لا تصفان إلا الشك وجعل سياق الكلام يؤكد أن الحساب في الجملتين من الغلط، وأن القول به لم يصدر على القطع والتحقيق، ولذا قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أي: لم يبق بعدها وجه للعدد وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، فتأمل كيف انتظمت هذه الواو معنى الآية وكيف تكون البلاغة المعجزة التي تجعل في تركيب الكلام أسرارًا كأسرار الخلق الحي، ولا زعمات صاحبنا الصدفي، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا لوضع الكتاب الذي نكمل به كتابنا هذا! فنبسط فيه من أسرار الآي وإعجازها ما تطلع به الشمس لمن أبصر فيراها، ولمن عمي فيحسها!

<<  <  ج: ص:  >  >>