وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية "الغوط" وبين صنيع العرب، فإن أولئك أغاروا على إيطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا أن ملكوها حتى ملكتهم، إذ تركوا أهلها وعادتهم من اللغة -وغير اللغة- ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية، حتى رغبوا في العلم، فاستجادوا المهرة من علماء الرومان، ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها، فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية، وهم قرءوها بها وأقروها عليها، فذهب غوطيتهم وذهبوا على أثرها، وأدالت اللغة الرومانية لأهلها منهم، فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا في لغة قبلها! ألا فأقبل أنت على هذا المعنى وتدبره حتى تحكم ما وراءه، فلقد تركوها آية بينة!
وبعد، فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض.... ولن تلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها، واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق، وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد، إذ تعلق الدين والسياسة معًا بفرع واحد من الفروع، هو الذي نقلت إليه التوراة، فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هي معه إلى زيغ حتى انطوت في ظله، ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي، ونسيت نسيان الميت.
وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان: الإنكليزي، والهولاندي، وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر، ثم أناف الإنكليزي حتى صار ما عداه من ظله، وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت في الأرض الجرماني، كالأسوجي والأيسلندي وغيرهما.
واللاتينية، فقد استفاضت في أوروبا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهًا في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.
فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي؛ حتى صارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا ... لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادة العقل بل مادة الحياة؛ وقد يكون العقل في يد صاحبه يضمن به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية زمنًا بعد زمن١، ولخرجت
١ لم نقف على ثبت يدل على أن اللغة العامية دونت في عصر من عصور التاريخ أو دون بها شيء، وقد ذكرنا ذلك في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، ثم عثرنا على أن أبا عقال الكاتب "في القرن الثالث" قد وضع كتابًا سماه "الملهى" وصف فيه أخلاق عامة بغداد وشيمهم ومخاطباتهم، وأورد هذه المخاطبات على سردها في منطقهم، والكتاب غير معروف. أما في زمننا فالعامية تدون، ولها صحف تنشرها وأتباع يتولونها ويقولون بها، وذلك من بعض فساد الزمن وانحراف الرأي بالعقيدة والجهل العلمي.... وانظر تفصيل ذلك في كتابنا: "تحت راية القرآن - المعركة بين القديم والجديد"