التي تجعل الفرد إنسانًا من الناس قبل أن تجعله تلك الشرائع وتلك العادات فردًا من أمة، فإن فصل ما بين حق الأمة على الفرد من أبنائها، وبين حق الآداب عليه؛ وهو أن كل أمة تريد أفرادها على أن يكونوا أبدًا مع الحال التي تتفق بها مصلحة على وجه أمرها، وإن كان في ذلك المفسدة وكان فيه معنتة ومأثم، وكان فيه كل ظلم للإنسانية ومراء في الحق وإصرار على الباطل؛ وأن لا يدعوا لها سبيلًا إلا ركبوه، ولا هوى إلا حطوا فيه، ولا منفعة إلا هدموا دور جيرانهم ليفتحوا بابها، ولا حاجة إلا قطعوا أسباب حلفائهم ليعترضوا أسبابها، فإن هذه الإنسانية وهذا الحق وذلك الباطل ليست غير أدوات سياسية تعمل في تحريك كل مجموع سياسي يسمونه الأمة؛ وقلما تتخذ السياسة لها فعلًا إذا أرادت أن تضرب في الأرض، إلا من "جلود" القوانين الممزقة.
غير أن الآداب على الفرد أن يكون أبدًا مع الحق، لا مع الحالة التي تسمى حقا في لسان من تنفعه وباطلًا في لسان من تضره, إذا الحق في اعتبار الآداب ما كانت في مصلحة الإنسانية نفسها باعتبار النظام الذي يعمها، لا مصلحة جزء منها باعتبار النظام الذي يخصه؛ ومبدأ الإنسانية قائم على أن الله لم يخلق إلا صنفًا واحدًا من الناس، ولكن مبدأ كل أمة سياسية أنها هي ذلك الصنف الواحد.
فلولا الآداب النفسية في طبائع الإنسان، وما تمكنه من صلات الناس بعضهم ببعض، وما تعطف منهم جماعة على جماعة، وما تطلق من حد المساواة، وما تحد من معنى الجزية، لكان وجه الأرض قد تغير بما يشملها من الفوضى الإنسانية، ولانتقض أمرها، ثم لكانت الشرائع نفسها أشد في إفسادها من الفساد كله، ثم لصارت كل أمة كأنها جنس من الحيوان: في قيامه بنفسه، وانفراده بنوعه، وتميزه بالعداوة لغيره، فههنا آكل وههنا مأكول؛ فإذا العالم قد أودى وقطع دابر القوم الذين ظلموا.
والشريعة في الجملة لا تعدو أن تنزل من كل مجموع من الناس منزلة المرشد المصرف للأفعال على جهة بينة من الحكمة، وطريقة لائحة من المنفعة؛ فهي في الحقيقة عقل هذا المجموع الذي يعقل به وينقاد لأمره، ثم هي بعد ذلك من المنزلة في نفسها بحسب ما تبلغه من الوفاء بأسباب السعادة، والكفاية بحاجات الاجتماع، إلى سائر ما تشبه فيه العقل الإنساني شبهًا تاما ونعتًا محققًا. ولكن الآداب تتنزل من المجموع منزلة النفس الإنسانية التي بها الحياة، والتي هي الكفيلة دائمًا بتحقيق النسبة بين العقل وبين أغراضه المعقولة وبين الأشياء التي هي مادة هذه الأغراض.
فالآداب لا تكون في الإنسان إلا شرائع، ولكن الإنسان إذا عري من الأدب النفسي، فربما شرع لنفسه ما لا يصنع الشيطان أخبث منه بل ما يركض فيه الشيطان ركضًا؛ وقلما انتفع من لا أدب له بشريعة من الشرائع وإن كانت في الغاية التي لا مذهب وراءها في تهذيب النفس ودرء المفسدة عنها بحسم مادتها أو ما سبيلها أن ترد به، ومن تقويم الطباع، وتثقيف الأخلاق، وتثبيت الإرادة، وتعيين الحد النفسي لكل منزع إلى الخير وإلى الشر، حتى تستوضح للمرء مذاهب نفسه، فيمضي إذا مضى على بينة، ويعدل إذا عدل عن بينة١. وانظر ما عسى أن يكون موقع الشريعة من نفس ترى أن كل
١ تستطيع أن تتبين هذا المعنى في "أناتول فرانس" الكاتب الفرنسي الشهير الذي هلك في السنة الماضية "١٩٢٦" وافتتن به وبآرائه بعض شباننا فهو حيوان من أعقل العقلاء، وعاقل من أكبر المجانين ... وكل أقدار نفسه في آرائه وكفى