للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الآداب التي توجب لها المنافع على الناس مجتمعين لا توجب عليها للناس منفعة.

من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخلق الإنساني المحض الذي لا يضعف معه الضعيف دون ما يجب له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدب عقيدة لا فكرًا إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازغ كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عين الله لا تنفك ناظرة إليه من ضميره.

وبين أن الاجتماع إنما هو شيء روحاني، وأن الأمة لا تجتمع إلا بقوة من قوى التجاذب الروحي، تبنى عليها الأغراض الاجتماعية التي هي المبادئ الأولى في الحياة، وعلى حسب الصفة الروحانية التي يقوم بها الاجتماع، ثم قوة المادة الروحية فيها، يكون أمر هذا الاجتماع إلى القوة أو الضعف، وإلى الثبات أو الاضطراب، وإلى أن يكون مستحصدًا أو منتكثًا. وعلى قدر ما يفقد من صفته يفقد من نفسه، فإذا زالت تلك الصفة وانسلخ منها، تعاورته صفات المادة فصار كالشيء المادي الذي تعمل فيه كل الأسباب الظاهرة تركيبًا وتخليلًا، فلا يتصل الفرد بغيره من الأفراد اتصالًا ثابتًا لا تنفصم عروته، ثم لا يكون من الأفراد إلى مجموع فرد إلى فرد على هذه الصفة عينها، وما من شعب منحط إلا وهو مثال لهذا الاجتماع المادي الذي يمتاز أكثر ما يمتاز بالصفة العددية وما كان من أسبابها مما هو علة الضم، والضم وحده لا يغني في الاجتماع شيئًا.

وأنت إذا تدبرت هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجفاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت مها ذرة وقع وراءها عربي! بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داع للصنم وراع للغنم، وعالم على وهم، وجاهل على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إليهم أطرافها.

وليس من دليل في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلًا اجتماعيا كذلك الجيل الأول في صدور الإسلام، حين كان القرآن غضا طريا، وكانت الفطرة الدينية مؤاتية، وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقًا جديدًا، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعًا، والعلوم قاطبة، لم تنشئ جيلًا من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان

<<  <  ج: ص:  >  >>