للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة، من حسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذلة للحق، وهلم إلى أن تستوفي الباب كله.

وهذا على كثرة عديدهم، وترادف تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم؛ وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك، بل يجعل هذه الأرض مثال السماء؛ لأنه في نفسه مثال الملك.

وماذا تريد من علوم الأخلاق وعبر الاجتماع وفلسفة التربية وآداب السلوك وما إليها مما يبتغى ذريعة في كل وجه من إصلاح الإنسانية، إذا كانت كل هذه إنما تلتمس الناقص أو المعوج أو الفاسد، أو الضال، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصح إليه على طريق من الجدل والمدافعة والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغًا ولا تؤخذ إلا على أنها ثقاف ودربة وتمكين، وما كل الناس يحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا القيام، وهي بعد وإن كانت علمًا غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة ويشوبها الاجتماع ويفسد عليها الظن والتأول. فكل كتاب من كتبها خيال رجل كامل على الحقيقة؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجل في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة "اليمين" جميعًا؛ إلا أن تصيب ذلك في الفرط والندرة.

وإنما كان ما علمت، لقصور هذه الآداب عن استبطان حقائق الفطرة الإنسانية، والكشف عن دخائلها، واستنارة دفائنها، وتمثل مذاهبها النفسية على الوجوه التي تذهب إليها هي لا تلك الوجوه التي يمضي فيها النظر والتأمل والحدس والقياس والتنظير ونحوها من وسائل العلماء إلى الاستنباط والاستنتاج وإلى القطع والتقرير، حتى خرجت تلك الآداب من أن تكون آدابًا إلى أن صارت قضايا متداخلًا بعضها في بعض، وأقيسة يفضي بعضها إلى بعض، فصارت كالشيء المختلف الذي لا ينفك يخذل بعضه بعضًا؛ لحملها على العقل دون الخلق، واعتمادها على جملة الفائدة دون الطريقة التي تنتهي إلى الفائدة، وبذا ضعفت آثارها في النشء من دون الطفولة، فضلًا عن ذوي العنفوان من الأحداث ومن أغفال الرجال، إذ لم تمازج أنفسهم! ولا داخلت طبائعهم المتطلعة التي إنما يكون الشر بها شرا، فلم تثبت ثبات العادة، ولا أغنت غناء الدين، وبقيت التربية الطبيعية كما هي: للدين والعادة١.

وإنما انفردت آداب القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفت من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحيًا يوحى إلى كل من يفهمه ويقف عنده متثبتًا بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكر ويملأ الصدر عجبًا؛ وهذا تفسير ما جاء


١ كان نابليون يقول: إن البواعث الدينية والإيثار والتقوى هي التي يقوم بها بناء الأمم، وهذه الثلاث هي التي لا يشتد القرآن الكريم في شيء ما يشتد فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>