الإنسان والخلق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آياته القرآنية والاجتماعية؛ والمراد بها أن ينفي الإنسان كل ما فيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره، لتكون حدود المساواة قائمة في الاجتماع، لا تصاب فيها ثلمة ولا يعتريها وهن: وكل ما أصاب الاجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين بديا؛ لأن هذه التقوى هي مصدر النية في المؤمنين بالله، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالًا ولا تنفك متطلعة منازعة، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويغمضون في تقواه ويترخصون في زجره ووعيده، فكأنهم لا يبالونه ما بالوا أمر أنفسهم، وكأن ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لا يحفل بالله نفسه، وهو أمر كما ترى. يريد القرآن أن يكون المنبع الإنساني في القلب، ثم أن يبقى هذا المنبع ما بقي صافيًا ثرا لا يعتكر ولا ينضب، كأنما في القلب سماء ما تزال تمد له من نور وهدى ورحمة.
وهذا الأصل -أصل المساواة- هو الذي كشفه القرآن بقوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعية التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفرق فيها الجنس الإنساني كله وهي الخلق من "الذكر والأنثى": وكيف وصف الغاية الاجتماعية للناس شعوبًا وقبائل بأنها "التعارف"، لم يزد على هذه اللفظة التي لا تشذ عنها فضيلة من فضائل الاجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة اجتماعية يمكن أن تدخل في مدلولها ولن تجدها إلا منصرفة عنها في الغاية.
ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرم الناس المتساوين جميعًا في الحالتين الفردية والاجتماعية، هو أتقاهم، أي: أعظمهم خلقًا، لا أوفرهم مالًا، ولا أحسنهم حالًا، ولا أكثرهم رجالًا، ولا أثقبهم فهمًا، ولا أعلمهم علمًا، ولا أقواهم قوة، ولا شيء من ذلك وأشباه ذلك مما لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلا في إدبار الدولة واضطراب الاجتماع وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنه دربة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائل صرفة لا شوب فيها!.
ولا يمكن أن تفسر "التقوى" على التحديد والتعيين في كلمة تستوعب كل معانيها وما يتصل بها إلا كلمة واحدة، هي "الخلق الثابت" ومهما أدرتها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلها فإنك لا تجد اسمًا واحدًا يلبسها لا فاضلة عنه ولا مقصرًا عنها.
لا جرم أن هذا الأصل الاجتماعي الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الآية، هو الأصل الذي انشعبت منه كل فضائل المساواة والحرية، وإنه لذلك مقدم على الإيمان، إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وأنه يقضي بكل أنواع الحرية التي تفيد الاجتماع، وكلها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أن الذي ننبه عليه من فضيلة التقوى أو الخلق الثابت في القرآن؛ أنه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطباع الموروثة وما لا بد للنفس الإنسانية في التخلق به من الكد والمعاجلة ومن شدة الاعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانية التي هي أصل الفطرة وغريزة الجبلة أن هذا كله في وصف الفضيلة وجماع الأمر لا يزيد عن كونه "أقرب للتقوى" وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} والشنآن: العداوة والغضب، وما في حكمهما.