وهذا على أنها "من قوم" لا من فرد كما ترى في الآية الكريمة؛ فينطوي في هذه الإضافة الحرب والاستعمار وغيرهما فتأمله.
ثم اعتبر القرآن أن خير الأمم على الإطلاق إنما هي الأمة التي تتبسط في مناحي الاجتماع على هذا "الخلق الثابت"، فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثم مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد، وهو الإيمان بالله؛ فالأمة التي تكون لأفرادها فضيلة التقوى، تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة، وهي أنها خير أمة، على هذا جاء قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فتأمل كيف قدم وأخر؛ فإنك لا تجد هذا النسق إلا ترتيبًا لمنازل الفضيلة الاجتماعية الكبرى تجعل الأمة في نفسها خير أمة، وبالحرى لا تجد هذا الترتيب إلا نسقًا في وصف الآداب الإسلامية التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوا وأخذوا بها خير أمة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه.
وإنما أركان الفضيلة الاجتماعية الكبرى في ثلاث, كلها حرية واستقلال:
١- استقلال الإرادة وقوتها وهذا هو الذي يكون عنه "الأمر بالمعروف"١ لا يكون بدونه ألبتة.
٢- استقلال الرأي وحريته، ويكون منه "النهي عن المنكر" ولا يمكن أن يكون بغيره.
٣- استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيمانًا على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفًا ويشدهما ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناس من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجلة. ونحوها مما ينقم الناس بعضهم من بعض, وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله, فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفق مع صحة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك, ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ارجعين إلى الإيمان بالله دخلًا في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علة وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل والمهارشة والنزاع الحيواني, فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يأمر بمعروف هو معروفه وحده وينهى عن منكر هو منكره وحده.
فانظر هل جاءت علوم الفلسفة والاجتماع بعد ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن بما ينقض هذه
١ اعترى لفظة المعروف ما أصاب لفظة التقوى، وإنما المعروف، كل ما يعرفه العقل الصحيح حقا. والمنكر: كل ما ينكره. ففي ذلك تقويم لكل إنسان من الملوك فمن دونهم، غير أن هذا المعنى لم يكن على حقيقته إلا في أهل الصدر الأول ثم كان أول من عاقب معاوية بن أبي سفيان الذي جعل الخلافة ملكًا عضوضًا في هذه الأمة، وكان بعد ذلك أول من تكبر من الخلفاء وأنف أن يساوى بالناس وأن يدعى باسمه الوليد بن عبد الملك، ثم انحدر الزمن انحداره ...