للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقيقة؟ وهل قررت إلا تفسيرها١ بوجوه ضعيفة مضطربة لا تبلغ في الكمال مبلغًا ولا تقارب هذا المبلغ؟ وهل في الآداب الآنسانية التي قامت عليها الأمم لهذا العهد مثل أن تكون سعادة الإنسان في منفعة الناس، وإن احتمل في ذلك المكروه واقتحم الصعاب وبذل من ذات نفسه وحفظ من حق غيره ما يضيعه ولو ضاع هو فيه، وذكر من واجبه ما ينساه ولو كان ذلك مما يفقده وينسبه، ثم لا يكون هذا حتى يكون مقدمًا على سعادة نفسه التي هي الإيمان، تقدم السبب على المسبب: كما يؤكد ذلك نسق النظم في الآية الشريفة التي مرت بك ...

اللهم إنه دينك الذي شرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنساية الذي قلت فيه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

تلك جملة من القول في الخلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغن عنهم من الخلق شيئًا، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الإمبراطورية الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذا امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معًا إذا كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سببًا في سقوطه!

وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمه، ولا يدركون حكمه، ولا ينزعون أخلاقه وشيمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانت شرا من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرون هذا الكتاب إلا أحرفًا، ولا ينطقون إلا أصواتًا، وتراهم يرعونه آذانهم وهم بعد لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس، وفي هؤلاء الجاهل والفاسق والوضاع والقصاص وذو الغفلة والمتهم في دينه وفهمه، ومن أكبر عرضه من القرآن حجج المخاصمة وبينات الجدل في مقارعة أو الرد على مذهب أو التأول لرأي أو النضح عن فئة، أو ما يشابه ذلك! وأولئك جمهور من يفهم عنهم المسلمون إلا نادرًا، ولا حكم للنادر٢.


١ آخر ما انتهت إليه الفلسفة أن الأمم على الأخلاق وعلى هذه العقائد.
٢ من الثابت البين أن من لم يحكم فهم القرآن فهمًا صحيحًا لا تتم له فضائل هذا الدين، وفي بعض الشعوب المسلمة التي لا عربية لها ولم يتخولها علماء العربية من أهلها أو غير أهلها بالتثقيف والموعظة لا ترى الإسلام إلا تهذيبًا لأديانهم وعاداتهم القديمة ليس غير, ففي بلاد الدكن، وعند قبائل دراقان، يؤلهون النبي صلى الله عليه وسلم ويعبدونه، وفي بعض جهات الهند وفارس أصبح شطر الإسلام من العقائد الوثنية. وإنك لترى هذا الأمر فاشيًا حتى في الشعوب العربية العامية كالجزائر في بعض جهاتها، ومراكش، ومصر، والسودان، وغيرها. وما من شعب منها إلا له عادات تاريخية يمزجها بالدين ويراها منه، فما تزال غربة الدين تتبع غربة العربية ونحن لا نزال نذكر حديثًا أطرفنا به من نحو عشرين سنة شيخ رحالة يضرب في الأرض، فإنه تحدث -وكنا من حاضري مجلسه- فذكر أنه نزل بقبيلة في حدود الصين تنتحل الإسلام -وقد ذهب عنا اسمها- فلما رأوه ينطق العربية ويقرأ القرآن وحدثهم أن حج البيت وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أقبلوا عليه واحتفوا به وكادوا يعبدونه، ثم ذهبوا يتشاورون في إكرامه بما هو أهله, فلم يروا أكرم له عندهم من أن يذبحوه, ثم يتخذوا عليه مسجدًا, فيكون شيخ دينهم إلى يوم الدين. فما علم الرجل بها حتى هام على وجهه وكاد يهلك في مجهل من الأرض، لولا أن تداركه الله بلطف من رحمته.
كتبنا هذا للطبعة الأولى "سنة ١٩١٤" أما الآن في "سنة ١٩٢٧" فنضيف إليه ما وقع في تركيا من بعض أهلها وحكامها: فكأنما كان الإسلام شعرًا على رءوسهم وحلق, ولكنه سينبت وسينبت ومن يعش يره!

<<  <  ج: ص:  >  >>