وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبين ما في البيان، وأسد ما في الرأي، وأبدع ما في الأدب، وأقوم ما في النصيحة، وبما هو التام الجامع لكل ذلك, إذا جعلت تملأ به مسامع الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهًا من وجوه الاستواء، ولا تملك إليهم سببًا من أسباب التأثير، ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها، إلا في فنون من جهل الجهلاء ولغط العامة وأوهام السخفاء، وفي انتقاض الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلا قلوبهم مساغًا {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
لا جرم كانت هذه علة العلل في أن القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهله ما كان له من قبل، ولا بعض ما كان له؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يجروه من ذلك على حقه، بل أصبحوا لا يستحون من الله أن يجعلوا قراءة كتابه ضربًا من العبادة اللفظية يرجون عند الله حسابها؛ ويبتغون في الأعمال ثوابها، ولا يشكون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابها، على أنهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
ذلك وجه الإعجاز الأدبي في القرآن، وهو متصل باللغة اتصالًا سببيا كما رأيت؛ ثم هو من وراء الجنسية العربية التي بسطنا القول فيها؛ لأنه تحقيق تلك العصبية الروحية، أما حقيقة هذا الإعجاز مما يتعلق بحال الآداب نفسها وكونها آداب الفطرة المحضة التي تماد الزمن؛ لأنها مادة الإنسانية؛ ولأنها فصل ما بين الإنسان في حيوانيته وبين هذا الحيوان الناطق في إنسانيته؛ فالقرآن كله برهان هذه الحقيقة، ونحن ملمون بها إلمامًا على ما بنا من الضعف، وعلى ما بها من القوة، وعلى أنه ينبغي أن تكون الإفاضة فيها غرض كتاب برأسه في بيان ما هي الجهات المتقابلة من علوم التربية والاجتماع وفلسفة الشرائع، فإن هذه العلوم بما انتهت إليه وعلى جملتها وتفصيلها، ليست إلا شروحًا مبسوطة للمبادئ القليلة التي هي ملاك الآداب، والتي حصرها القرآن حصرًا محكمًا, وجاء بها على سردها وجهاتها، كما يتبين ذلك من يقرؤه قراءة بحث وتأمل؛ ومن زعم أن هذه الآداب علم أو هي تكون علمًا فلا يقصر سبيل الحجة إليه طول الخصومة في زعمه مهما أطلنا؛ فإن أصل الأمر في الآداب حالة النفس لا حالة العقل١؛ وكم رأينا في أجهل الناس من سلامة النفس ورحب الذرع وإخلاص الطوية وصدق اللسان والقلب وضروب من الآداب كثيرة، ما لم نر بعضه ولا الخالص من بعضه في العلماء عامتهم أو أكثرهم؛ وإنما {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
١ من هذا ما يقول بعض فلاسفة الغربيين: إن أوهامنا لتكثر كلما كثرت معارفنا. قلنا: وإن أغلاطنا لتكثر كلما كثرت أوهامنا، وإن شرنا ليزيد كلما زادت أغلاطنا!