للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوام الإنسانية في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إليه آداب القرآن:

الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلة فاصلًا طبيعيا بين فرد وفرد، وبين أمة وأخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعًا متباينة بطبيعتها، ثم ينشق النوع إلى أجناس، ثم كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظام الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسان مع تقادم الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعة ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع ...

الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يبتلى به الإنسان من الخير والشر فتنة، حتى لا يحيف القوي ولا يستيئس الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزاهز، كالحروب ونحوها، إلا عملًا إنسانيا يبتغى به دفع اعتداء وإقرار حق ورد باطل وتقويم زيغ، إلى أمثالها مما هو في حدود المرحمة والمبرة، وليس يعدو بحال من الأحوال أن يكون وسيلة من وسائل الزجر والتأديب، إذ قد خلا من ابتغاء الهلكة ورغبة الفناء وإبادة الخضراء، ونرئ من معايب هذه السياسة الحيوانية التي لا تقوم لها قائمة إلا باعتراض الغفلة وانتهاز الضعف وبالكيد والمخاتلة، وتنزه مع ذلك عز دناءة المقصد وسفال الغاية وسوء الذريعة، وعن الخبث الإنساني في الجملة.

الثالثة: حد هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوة الأزلية، حتى يتحقق معنى المساواة فيها، فإن كل ما هو أدنى فهو سواء في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض. ولولا هذا الحد لما أمكن أن يجمع الناس على آداب يكون من غايتها أن تحوط الإنسانية فيهم، إذ يبعدون هذه الإنسانية من قلوبهم إلى ما وراء إنكارها والتكذيب لها، فلا يبقى لآدابها وجه تعتبر منه أو يؤخذ به في أمرها، ومن ثم لا تكون الإنسانية إلا الغلظة والفظاظة في الأقوياء، وإلا الذلة والمسكنة في الضعفاء، وتكون كل ذرة تسقط على الأرض من نعل القوي تفتح في الأرض قبرًا لرجل ضعيف، فلا تعمل في العمران يومئذ إلا آلات الهلاك والدمار، حتى يبقى الإنسان من الدنيا كأنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا١ ولذا كانت الأديان الإلهية كلها متفقة في حد هذه النسبة التي أشرنا إليها، بل كان هذا الحد أساس الاعتقاد في جميعها؛ لأنه أساس كل نظام إنساني في الأرض.

وهذه الثلاث فإنما هي جماع ما تقول به الإنسانية المحضة في صفاتها الإلهية التي هي غريزة النفس وصلة ما بين المخلوق والخالق، ولذا أمكن أن تكون {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وأن تكون من آداب كل عصر وجيل، لا تعترضها حدود الزمن؛ ولا ينال منها تقلب الأيام؛ ولا تغادر الدهر أن يراها الإنسان من نفسه بحيث وضعها الله، وهي بعد أمهات الفضائل وأصلها الذي تنشق


١ وهذا ما ستنتهي إليه المدنية الغربية وحضارتها إن مضت سائرة على طريقتها؛ وقد بسطنا رأينا فانظره في كتابنا "تحت راية القرآن".

<<  <  ج: ص:  >  >>