للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منه. وقد نرى هذه الفضائل الاجتماعية على اختلافها أطوار الناس، على تفاوت مقاديرها فيهم، كيف تلتقي إلى هذه الثلاث؛ وكيف تدور عليها حتى لا يقطع على الرذيلة بأنها رذيلة إلا إذا كانت تعدو على جهة من تلك الجهات في سبيلها أو غايتها، فأما أن تكون في الأرض رذيلة لا تفسد شيئًا من ذلك ولا تلم به، فهذا ما لا يكاد يصح في عقل صحيح.

وأنت إذا تدبرت آداب القرآن الكريم حيث أصبتها منه، رأيتها قائمة على تلك الثلاث جميعًا، فإن روح هذه الآداب كلها في ثلاث كلمات من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ١. فليس في الناس اختلاف كاختلافهم في كل ما يرد إلى تعيين حقيقة النسبة في المساواة بين الإنسان والإنسان، وما الظلم والتعسف والمكابرة والمخاتلة، ولا كل الرذائل الاجتماعية، إلا مظاهر متعددة لهذا الاختلاف بعينه؛ ولا القوانين والعادات والشرائع وكل الفضائل الاجتماعية، إلا وسائل مختلفة لتبين هذا الاختلاف على حدود بينة من الحق، وهيهات أن يكون للناس هدى إلا بالطرق التي يتخذونها لحياطة تلك النسبة ويأخذ بها بعضهم بعضًا, وهيهات أن يصيبوا أثرًا من الرحمة لأنفسهم إلا بحد تلك النسبة وإقامة هذا الحد على التقوى التي هي مظهر الإيمان فيما بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.

وكل الوسائل التي تعمل في النهضة الإنسانية فإنما هي ترجع إلى ثلاث كلمات تقابل تلك الثلاث أيضًا وهي: صلة الحرية بالشريعة وصلة الشريعة بالأخلاق وصلة الأخلاق بالله, وعلى تفصيل هذه الثلاث جاءت آداب القرآن الذي لو بلغت الإنسانية في وصفه بما وسعها ما بلغت مثل قوله تعالى فيه: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} فانظر كيف يكون تصوير العاطفة وتأثيرها العصبي وما وراء تأثيرها.

لا غرو كان هذا القرآن من أجل ذلك إنما يصف جمل الآداب، أي: الكليات الأدبية التي تلائم الفطرة في مختلف أزمانها، ولا يقرر الأخلاق تقريرًا وضعيا على أسلوب الكتب والمصنفات، فيضعها على أن لها قواعد وضوابط وأشباه القواعد والضوابط، مما هو مثار الاختلاف ومبعث الفرقة في مذاهب الحكماء، ومما لا تكون الآداب معه إلا معادة على الناس في كل عصر بنوع من التنقيح وضرب من التغيير يناسبان اختلاف كل عصر عن الذي قبله، بل إن المعجزة في هذه الآداب الكريمة أنها تقرر الأخلاق تقريرًا عاما، فيصفها القرآن على أنها هي القواعد لغيرها، والضوابط لما يبتنى عليها، ويوردها في أحسن الحديث؛ ويعترض بها وجوه القصص ويقلبها مع أغراض الكلام ثم لا يكون في ذلك وجه من وجه الخلاف بينها وبين الفطرة الإنسانية، على ما في تلك الآداب من الإطلاق، وعلى أنها غير ملحوظ فيها دولة بعينها أو أمة بأوصافها، أو نحو ذلك من ضرور الحد والتعيين؛ فليس فيها من روح الزمن إلا روح الزمن كله بحيث لا يتأتى للفيلسوف ولا المؤرخ إلى أن يردها أحدهما أو كلاهما في جملتها إلى عصر بعينه لا تعدوه، أو يقصرها على حد تقفها عنده


١ تأمل هذا القيد في جعله الهدى والرحمة "لقوم يؤمنون" فإذا انتفى الإيمان انتفت معه كل آداب الإنسانية، كما هو واقع.

<<  <  ج: ص:  >  >>