للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإنسانية وتتقدم بغيرها مما يقال فيه إنه الأصلح أو الأنفع، ولو أن الدهر قد فنى ثم نزع من كل أمة شهيد وعرضت عليهم آداب القرآن فقابلوها بفضائل آدابهم واعترضوا بعض ذلك ببعضه ثم قيل هاتوا برهانكم عليها، لأقر الزمن بألسنتهم جميعًا أنها الحق وأن الحق لله.

من أجل ذلك تجد الخطاب الأدبي مطلقًا في القرآن كله كأنه نظام إنساني عام لا يراد به إلا حرية المنفعة للنوع كله، ثم الموازنة بين مقدار هذه المنفعة وبين مقدار الحرية التي تنال بها، ليكون كل شيء في نصابه الاجتماعي، فإن إطلاق الحرية عبث، وإطلاق المنفعة ضرر أو ضرار، ولو سوغت كل أمة أن تقارف ما تريد بمقدار ما يهيئ لها ضعف غيرها من الحرية في بسط يدها لكان من ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير.

وإن كل أمة اضطربت فيها الموازنة بين الحرية والمنفعة، فإنما يكون ذلك حاضر تاريخها مبدأ العبودية لغيرها؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه علوم الاجتماع لهذا العهد.

وكذلك كل ما في آداب القرآن الكريم من الأمر والنهي، فإنما يراد به ضبط الصلة بين عالم العقل وعالم المادة على وجه بين؛ ولولا ذلك ما كانت هذه الآداب زمنية تحيي روح الزمن كله، بل لكانت من غير هذا العالم، فلا يستقيم لها بشيء ولا تستقيم هي لشيء١ ثم لا تكون في الناس إلا عنتًا وإرهاقًا ولا يتهيأ معها صرف ولا عدل، ولا يكون منها في الزمن إلا اسمها، وإلا الخبر أنها كانت يومًا فتلحق في التاريخ بباب الفضائل الذي لا يلجه إلا القليل، مع أن وراءه كل أسماء الحكماء والفلاسفة.

والإنسان إنما يصرف ما يشاء من النواميس الثابتة لعالم المادة فيما يرجع بالنفع والضرر، فإذا أطلقت يده في ذلك فكأنه جزء ناقص من نظام الكون؛ أو جزء ينقصه شيء من هذا النظام؛ بيد أن الآداب إذا أحكمت صلته بذلك العالم المادي على وجه بين حلاله وحرامه، فلا ينحاز إلا في حد من الحدود المرسومة، ولا يبغي شيئًا لم تتعين تبعته، ولا يستدخل في أمر إلا وهو في ربقة من نظامه الاجتماعي٢ فإنه يكون قد استكمل حينئذ ما كان ينقصه، أو ما كان يجعله ناقصًا إن خلا منه، وما دامت الحياة مادة، فللمادة حكمها في الحياة.

وما تدبر هذا القرآن أحد قط إلا وجده يطلق لكل إنسان -على القوة والضعف والعزة والذلة- إرادة اجتماعية أساسها الفضيلة الأدبية: حتى لا تكون بطبيعتها إلا جزءًا من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادة المجموع، ولقد كانت تلك الإرادة الاجتماعية هي الحلم السماوي الذي أطبق عليه الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعًا، ولم يتحقق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيح لآداب القرآن؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبية بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتفق لها أن تبلغ من الفطرة؛ فكانت أعمالها مظاهر لتلك القوة التي سميناها "الإرادة


١ كما ترى فلسفة بعض الحكماء الخياليين في الأعلى، أو الحيوانيين في الأسفل.
٢ أي: عهد ومسئولية، والمراد أن يكون الإنسان حرا، ولكن حدود الحرية المشروعة بقوانين الإنسانية.

<<  <  ج: ص:  >  >>