للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاجتماعية" ولو أن العلوم كلها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئًا من غنائه، ولا ردت عليهم بعض مرده؛ فإن الفضيلة العقلية التي أساسها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظرية التي ربما اهتدى بها المرء وربما ظل بها على علم، ولكن الفضيلة الأدبية تدفع إلى الإرادة العملية دفعًا؛ لأن هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل، ومتى صحت إرادة الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعة من عمل الأمة، ولا بد أن تكون الأمة القائمة بأفراد من أمثاله قطعة من عمل التاريخ الاجتماعي؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب في التاريخ، وهو وليهم بما كانوا يعملون.

ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلا أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأ قبل أن يجعل له شريعة، ثم لا يقيم الشريعة إلا على هذا المبدأ، فيكون المرء محكومًا بيقينه وفكره لا بظنه ولا بعادته؛ وبذلك يكون بناؤه الإنساني قارا في حيزه الإنساني.

وأنه ليستحيل ألبتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعي ما دام له يقين ثابت في آداب المجموع.

هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنية في كل ما تقدم، تفاديًا من الإطالة واقتصارًا على غرض الكتاب، مما يجزئ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على الكثير وإن لم تكن هي إياه غير أنها تعينه وتصفه، ومن ضرب بالحدود على فضاء واسع من الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئ النظر الهين أن يطبقه ويستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك من تعرفه وقياسه واستخراج مبلغ ذرعه ما يبلغ العنت؛ ما ليس في العنت أبلغ منه.

وبالجملة فإن القرآن إنما يريد بآدابه وعظاته الإنسان الاجتماعي لا الصورة الإنسانية التي تخلقها العصور التاريخية والسياسية أصنافًا من الخلق، أو تفتري عليها ضروبا من الافتراء، فهو يريد كل ما فيه من الآداب الاجتماعية على هذه الجهة لا يعدوها، وليس فيه من آية من الأدب والأخلاق إلا هو يريغ بها ناحية من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روح آدابه في أنفس المسلمين لا تغير في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنها فيهم طبيعة وراثية، ولقد كانت هذه الروح -ولم تزل- هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادوا استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممن اشتدوا عليه ليخذلوه، ثم كانوا بعد ذلك من أشد أهله في نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلام لا دعوة له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما شاء الله، إلا القدرة التي هي مظهر آدابه أو روح هذه الآداب؛ فحيثما وجدت طائفة من أهله وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم، وإن لم يتسخر هو من ورائهم الدعاة المنتخبين ولم يستحثهم للجولة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدنيا ليترامى بهم إلى غرضه في كل شرق، وتلك دلالة صريحة على أنه الدين الطبيعي للإنسانية، إذ تأخذ فيه النفس عن النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط ... وهي حقيقة زمنية لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلها!

وبعد فما أفصح وأبلغ، وما أصح وأوضح ما ورد في صفة القرآن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيه

<<  <  ج: ص:  >  >>