٢ مما يذكرونه من صنع الرشيد للفقهاء وعلومهم، هذا الخبر الذي يروى عن زاهد وقته وعالم دهره عبد الله بن المبارك المتوفى سنة ١٨٢هـ: وذلك أن الرشيد حين قدم الرقة؛ لقي عبد الله هذا، فلما هم بالقيام من عنده -وكان قد زاره في داره- قال ابن المبارك: يا أمير المؤمنين، إني أخشى أن يكون العلم قد ضاع قبلك كما ضاع عندنا، فقال الرشيد: أجل، إنه ما قلت. ثم لما قدم الرشيد العراق كان أول ما ابتدأ فيه النظر: أن كتب إلى الأمصار كلها، وإلى أمراء الأجناد: أما بعد، فانظروا من التزم الأذان عندكم، فاكتبوه في ألف من العطاء، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعمر مجالس العلم ومقاعد الأدب، فاكتبوه في ألفي دينار من العطاء، ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلم واستبحر، فاكتبوه في أربعة آلاف دينار من العطاء؛ وليكن ذلك بامتحان الرجال السابقين لهذا الأمر من المعروفين به من علماء عصركم وفضلاء دهركم، فاسمعوا قولهم وأطيعوا أمرهم فإن الله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وهم أهل العلم. قال ابن المبارك: فما رأيت عالمًا ولا قارئًا للقرآن ولا سابقًا للخيرات ولا حافظًا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه. وهذا الخبر وإن كان إلى المبالغة ما هو، ولكنه في أصله حقيق بالتصديق، فإن مناقب الرشيد -رحمه الله- كثيرة لا تضيق من دونه، وقد صحت الرواية بأنه ما اجتمع على باب خليفة قبله ما اجتمع على بابه من الشعراء وأهل الأدب، وقد كانت يتفقدهم ويتقدم في طلبهم ويحظيهم ويفضل عليهم، وما هذه الرواية إلا بسبيل من تلك، ولتلك أقرب إلى الحق وأعلق بأسباب الزمن. ٣ مما نورده تفكهة وبيانًا لاعتقاد العامة من أهل العقول، أيام كان القلب أكبر من العقل، ما رواه المسعودي: أن أبا خليفة الفضل بن الحباب الجمحي المتوفى سنة ٣٠٥هـ "وكان فصيحًا معربًا لا يتكلف الإعراب بل صار=