للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي ألقيت إليهم، لما نال منهم على الدهر منالًا، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثم لكانت سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، وهو لم يخرج عن كونه في الجملة كأنه موجود فيهم بأكثر معانيه، قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم لنقضوه كلمة كلمة، وآية آية، دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم، ولكان لهم وله شأن غير ما عرف؛ ولكن الله بالغ أمره، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيا بروح عصره الذي أنزل فيه، فلا يستطيع من لا يقول بإعجازه أن يقصره على زمن الجاهلية أو يتعلل في ذلك، وهو بعد من الإحكام والسمو شرف الغاية وحسن المطابقة بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم، واستولت على الأمد التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بسطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقومات الأمة, فذلك ما علمت.

وإن ههنا وجهًا آخر هو أعجب ما أومأنا إليه، على أنه ضريبه في الحكمة وقسيمه في الاعتبار؛ إذ هو متعلق بطبيعة الأرض، كما أن ذلك متعلق بطبيعة أهلها، فإن من الثابت البين أن لهيئة الطبيعة جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق؛ فترى في الجهات المقفرة أو المخفوفة أو التي يلقي منظرها في نفسك الرهبة دون المحبة، والفزع دون الاطمئنان أقوامًا كأنما نشئوا في المعابد، وولدوا في الصوامع؛ فليس في أخلاقهم إلا الاستسلام للوهم والتخيل، وإلا الخوف من كل شيء تكون فيه روح الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان، وتزوج السعالي، ومجاوبة الهواتف، والروغان عن الحن إلى الجن، واصطياد الشق، ومحاربة النسناس، وصحبة الرئي، وما كان لهم من خدع الكاهن، وتدليس العراف، ومن العيافة والتنجيم والزجر والطرق بالحصى١ وغيرها من خرافاتهم المعروفة، ثم الخوف من كل شيء تعرف فيه روح الطبيعة، كالأوثان وسائر ما قدسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة؛ لأن هذه الصفات وأمثالها تكتسب من طبيعة الخيال حدة وشدة٢ وأنت واجد عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة مطمئنة لا تجتاح أهلها


١ للعرب مذاهب كثيرة مثل ما وصفنا، ولا محل لبسط القول فيها ولكنا نقتصر على تعريف ما أتينا به تعريفًا لفظيا. فالغيلان: إناث الجن. والسعالي: جمع سعلاة، وهي سحرة الجن. ويقال إن الغيلان من السعالي. والهواتف: جمع هاتف وهي الجن تهتف بهم وتنذرهم، والحن نوع من الجن. والشق: جنس من أجناسهم، والنسناس: جنس من الخلق يعد فيهم. والرئي: جني يكون لبعض الناس فيخبره بالغيب، والكاهن من يتنبأ لهم بما سيقع. والعراف: من يستدل بالأسباب والحوادث ويتنبأ من ذلك. والعيافة: التكهن بالطير أو غيرها. والزجر: أن يزجر الطير ليتسعد أو يتشأم إذا أراد أن يهم بأمر. والطرق بالحصى: وسيلة من وسائل التكهن. وفي كل ذلك شرح طويل واختلاف كثير.
٢ في العادة أن خرافات أمة من الأمم هي مادة الخيال في أهلها، وكأنها تزيغ بهم عن أساليب الحقيقة فيغلب الخيال بها على العقل، وهذا من السر في أن القرآن لم يكبر أمر الشعر ولا دعا إليه إلا في حقه وخالصته الاجتماعية.

<<  <  ج: ص:  >  >>