للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ترميهم بالفزع فإنهم لا يقرون على خوف وتوثب، ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادة ما يخيفهم أو تقديس ما اتصلت به روح الطبيعة، ثم لا يكونون إلا أهل عمل بالحواس دون التخيل، قد غير أحدهم دهره عاملًا فليس يبالي إلا بالحاضر الذي تتعلق به روح العمل، دون الماضي الذي يجتمع عليه حرص أولئك؛ لأنه غيب الطبيعة التي يقدسونها، فكان من أخلاق العرب ما هو مشهور عنهم: من التفاخر بالآباء والأجداد، والذهاب مع الوهم في كل مذهب، وعدم المبالاة إلا بما يلحقهم بآبائهم ويجعلهم في عداد الماضين، ليكون لهم فيمن يخلفهم من الشأن والتقديس والتعظم بهم ما كان فيهم لمن تقدمهم فيتقون سوء القالة وخبث الأحدوثة، وسائر ما يفسد عليهم هذا الشأن، بكل ما وسعهم، لا يألون في ذلك جهدًا، ولا يغمضون فيه ولا يتقدمون في سد غيره قبل إحكامه واستفراغ قوتهم له، إلى غير هذا مما هو معروف متظاهر عنهم. ثم كان هواهم كله في الشعر؛ لأنه عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، وهو الصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم؛ فجاء القرآن يسفه تلك الطباع منهم، ويحول بينهم وبين ذلك الماضي، ويصرفهم إلى العمل، ويذهب عنهم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، ويأتيهم بالبصائر من ربهم، ويهديهم بالعقل إلى أسرار الطبيعة ليعلموا أنها مسخرة لهم فلا يسخروا أنفسهم لها، وحرم عليهم التقديس وما في حكمه، وبصرهم بما مسهم من طائف الشيطان وما نزغهم من أمره، خيالًا أو وهمًا أو شعرًا أو عبادة، وجعل أفضل الفضائل في الذي قام يدعو وهو النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن يومه، وابن عمله، وابن عقله، فلا هو مفاخر ولا واهم ولا شاعر، وتلك أخص فضائلهم الاصطلاحية، وخاطبه بهذه الآية الكريمة التي هي روح الثبات في أمم العلم والعمل، وهي قوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ١ فكيف يمكن أن يكون هذا القرآن مع ذلك كله مما يطابق أرض العرب في طبيعتها وهي ما علمت؟ وكيف يتفق أن يكون كل ذلك من صنعة رجل قد نشأ فيهم واتصل بهم وذهبت عروقه بينهم واشجة، وهو من صميمهم نسبًا ووراثة، يعرفونه ويحققون جملة أمره.... ولم يخرج عنهم قط للعلم أو الطلب، ولا طرأ عليهم من غير أرضهم، ولا أنكروا عليه أمرًا من لدن نشأته إلى حد الكهولة، وإلى أن دب الشيب في عذاريه وهم مستيقنون أنه ما كان يتلو من قلبه من كتاب ولا يخطه؟

وما عهدنا رجلًا من علماء التاريخ قد أهاب بأمة طبيعية كالعرب، ذات بأس وصرامة وحمية وحفاظ وذات خيال وتصور, يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفهم حقا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها، وتسوغه تاريخها وعاداتها وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها! وهم لا يرونه في ذلك إلا مسخوط الرأي ذاهب الوهم، بعيدًا منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعًا، ولا يرون من أمره ذلك إلا قلة وضرعًا وهوانًا واستخفافًا وإن كانوا يعرفونه بحسن الخلق وصفاء الذمة وتخشع السمت، ويعرفون أنه لا يريد ملكًا لا يبغي دولة لا يتصنع لحدث من الأحداث السياسية ولا يهتبل غرة ذاهلة ولا يستعد لنهزة سانحة {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا


١ ذكر البراءة من العمل دون البراءة منهم, كأنه يقول: إنا قد اختلفنا فلنتجادل أعمالنا، فلستم من عملي ولكنكم صائرون إليه؛ لأنه الحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>