على أمر، وسرحوا فرصة كانت لهم ممكنة، وتركوا أسبابًا كانت منهم قريبة، وليس في ذلك سبب وراء القرآن؛ فإن كل آية يسمعونها كانت تصيبهم بالشلل الاجتماعي، وتخذلهم في أنفسهم، فلا يحسون منها إلا تراجع الطبع وفتور العزيمة, ويكسر ذلك عليهم أمرهم, فتقع الحرب في أنفسهم بديئًا بين الوهم واليقين، فإن نصبوها له بعد ذلك أقدموا عليها بنفوس مخذولة، وعزائم واهية، وأمور منتشرة، وخواطر منقسمة، وقاموا فيها وهم يعرفون آخرة النزوة وعاقبة الجولة، وتلك حرب سبيلها في القتال سبيل المكابرة الواهنة في الجدال من أقدم عليها مرة كان آية لنفسه، وكان عبرة لغيره، حتى ما يعتزم لهولها كرة أخرى، فمن سكن بعدها فقد سكن!
ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أملوا أن يطلعوا عليه في آياته البينات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوا ونزولًا، على حسب ما لا بد منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، مما ينقسم إليه الخطاب ويتصرف القول فيه. ومروا ينتظرون وهم معدون له التكذيب، متربصون به حالة من تلك الأحوال، فإذا هو قبيل غير قبيل الكلام، وطبع غير طبع الأجسام، وديباجة كالسماء في استوائها لا وهي ولا صدع، وإذا عصمة قوية، وجمرة متوقدة، وأمر فوق الأمر وكلام يحاورن فيه بدءًا وعاقبة.
وقد كان من عادتهم أن يتحدى بعضهم بعضًا في المساجلة والمقارضة بالقصيد والخطب، ثلة منهم بقوة الطبع، ولأن ذلك مذهب من مفاخرهم، يستعلون به ويذيع لهم حسن الذكر وعلو الكلمة؛ وهم مجبولون عليه فطرة. ولهم فيه المواقف والمقامات في أسواقهم ومجامعهم، فتحداهم القرآن في آيات كثيرة أن يأتوا بمثله أو بعضه، وسلك إلى ذلك طريقًا كأنها قضية من قضايا المنطق التاريخي، فإن حكمة هذا التحدي وذكره في القرآن، إنما هي أن يشهد التاريخ في كل عصر بعجز العرب عنه وهم الخطباء اللد والفصحاء اللسن، وهم كانوا في العهد الذي لم يكن للغتهم خير منه ولا خير منهم في الطبع والقوة، فكانوا مظنة المعارضة والقدرة عليها, حتى لا يجيء بعد ذلك فيما يجيء من الزمن، مولد أو أعجمي أو كاذب أو منافق أو ذو غفلة، فيزعم أن العرب كانوا قادرين على مثله، وأنه غير معجز، وأن عسى أن لا يعجز عنه إلا الضعيف وبالله من سمو هذه الحكمة وبراعة هذه السياسة التاريخية لأهل الدهر١.
أما الطريقة التي سلكها إلى ذلك، فهي أن التحدي كان مقصورًا على طلب المعارضة بمثل القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات لا يلتزمون فيها الحكمة ولا الحقيقة، وليس إلا النظم والأسلوب،
١ لورود التحدي في القرآن حكمة أخرى عجيبة, وقد أمسكنا عنها، إذ يقتضيها موضع آخر سيمر بك، ولن تسمى المعجزة معجزة إذا وقع بها التحدي بديئًا, فإن هذا التحدي ميزان ينصب بين القدرة والعجز, ولا تستطيع أن تقول هذا معجز إلا إذا تحديت الناس به فعجزوا عنه.