للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهم أهل الله ولن تضيق أساطيرهم وعلومهم أن تسعها عشر سور ... ثم قرن التحدي بالتأنيب والتقريع، ثم استفزهم بعد ذلك جملة واحدة كما ينفج الرماد الهامد، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فقطع لهم أنهم لن يفعلوا، وهي كلمة يستحيل أن تكون إلا من الله، ولا يقولها عربي في العرب أبدًا، وقد سمعوها واستقرت فيهم ودارت على الألسنة، وعرفوا أنها تنفي عنهم الدهر نفيًا وتعجزهم آخر الأبد فما فعلوا ولا طمعوا قط أن يفعلوا١, وطارت الآية بعجزهم وأسجلته عليهم ووسمتهم على ألسنتهم، فلما رأوا هممهم لا تسمو إلى ذلك ولا تقارب المطمعة فيه، وقد انقطعت بهم كل سبيل إلى المعارضة، بذلوا له السيف، كما يبذل المحرج آخر وسعه، وأخطروا بأنفسهم وأموالهم، وانصرفوا عن توهن حجته إلى تهوينها على أنفسهم بكلام من الكلام فقالوا: ساحر، وشاعر، ومجنون، ورجل يكتتب أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر٢ وأمثال ذلك مما أخذت به الحجة عليهم وكان إقرارًا منهم بالعجز، إذا جنحوا فيه إلى سياسة الطباع والعادات، تلميحًا كما تقدم، وتصريحًا كقولهم: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقولهم: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .

وأمر العادة مما تخدع به النفس عن الحق؛ لأنها أعراق ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع، وخاصة في قوم كالعرب كان شأن الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سلف، وكانت العادة عندهم دينًا حين لم يكن الدين إلا عادة.

قال الجاحظ: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة،


١ تأمل نظم الآية تجد عجبًا فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة لن تكون ولن تقع! فقال لهم: لن تفعلوا، أي: هذا منكم فوق القوة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن، ثم جعلهم وقودًا ثم قرنهم إلى الحجارة، ثم سماهم كافرين، فلو أن فيهم قوة بعد ذلك لانفجرت، ولكن الرماد غير النار.
٢ كان العرب يلحدون إلى رجل أعجمي زعموا أنه يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيء من أخبار الأمم ونحوها, فرد الله عليهم بقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} تلك مغالطة منهم وهذا ردها. وهو يثبت أن إعجازها كان بالفصاحة والأسلوب مع قدرتهم، لا بالصرفة ولا بغيرها. ويؤكده أنه تحداهم أن يأتوا بعشر سور مفتريات، والافتراء سهل لا يضيقون به، ولكن أين لهم مثل النظم والأسلوب؟ ولو كان تحداهم بعشر سور مفتريات ولم يقل "مثله" لأثبت ذلك أن الإعجاز بغير الأسلوب، بل لو لم تكن هذه الكلمة "مثله" في آية التحدي لجاز القول بأن القرآن غير معجز، ولاضطرب الأمر كله من أجل حرف واحد كما ترى.
وقد اختلفوا في ذلك الأعجمي، فقيل: إنه سلمان الفارسي، وقيل إنه بلعام الرومي. وسلمان إنما أسلم بعد الهجرة وبعد نزول كثير من القرآن، وأما الرومي فكان أسلم وكان يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: وقد كان سلمان أو بلعام الرومي أو يعيش أو جبر أو يسار، على اختلافهم في اسمه، بين أظهرهم، يكلمونه مدى أعمارهم، فهل حكي عن واحد منهم شيء مثل ما كان يجيء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك؟ وما منع العدو حينئذ، على كثرة عدده ورءوب طلبه وقوة حسده، أن يجلس إلى هذا فيأخذ عنه ما يعارض به؟

<<  <  ج: ص:  >  >>