للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته؛ فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف. فنصب لهم الحرب ونصبوا، وقتل من عليهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يعارضوه إن كان كاذبًا بسورة واحدة؛ أو بآيات يسيرة، فلكلما ازداد تحديًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشف من نقصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا تعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات. فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم، مع كثرة كلامهم، واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم؛ وكثرة شعرائهم؛ وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله؛ وأفسد لأمره وأبلغ في تكذيبه؛ وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات؛ ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور، ثم تحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم. فمحال -أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البين مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطبقوا ثلاثًا وعشرين سنة١ على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه، وهم يعرفون ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه. ا. هـ.

على أن التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنهم عارضوا القرآن، فمنهم من ادعى النبوة وجعل ما يلقيه من ذلك قرآنًا كيلا تكون صنعته بلا أداة ... على أنه لا أتباع له من غير قومه، ولا يشايعه من قومه طائفة يستنفرون لأمره ويعطفون عليه جنيات الناس حتى يجمعوا له أخلاطًا وضروبًا، وقد تبعوه وشمروا في ذلك حمية وعصبية، وحدبًا من الطباع على الطباع٢ فهم في غنى عن نبوته


١ هي مدة رسالته صلى الله عليه وسلم.
٢ وذلك أمر قد اطرد لكل المتنبئين من العرب، وهم: مسيلمة، والأسود العنسي، وطليحة، وسجاح، وسنذكر طرفًا من أخبارهم بعد، وقد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه، رسول الله! فقال: لا حتى أراه! فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ قال: في ظلمة. قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر؟ ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان طليحة قد تنبأ واستطار أمره في بعض قبائل من العرب، وكان بين غطفان وأسد حلف في الجاهلية، قام عيينة بن حصن في غطفان فقال: إني لمجدد الحلف الذي بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش! فتأمل.

<<  <  ج: ص:  >  >>