للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقرآنه، وإنما رأيهم الخطار بالأنفس والأموال على ما تنزعهم إليه الطبيعة، مقاربة لمن قارب صاحبهم، ومباعدة لمن باعد، وعسى أن يرد ذلك مغنمًا، أو ينفلهم من غيرهم، أو يجدي عليهم بالعزة والغلبة، أو يكون لهم سبيل منه إلى التوثب إذا صادفوا غرة وأصابوا مضطربًا، إلى غير ذلك مما تزينه المطمعة، ويغر به الغرور، ويقصد إليه بالسبب الواهي وبالحادث الضئيل، وبكل طائفة من الرأي وبقية من الوهم وتستوي فيه الشمال واليمين، وتتقدم فيه الرءوس والأرجل مبادرة لا يدرى أيهما حامل وأيهما محمول.

ومنهم من تعاطى معارضة القرآن صناعة وظن أنه قادر عليها يضع لسانه منها حيث شاء، وهؤلاء وأولئك لا يتجاوزون في كل أرض دخلها الإسلام من بلاد العرب والعجم إلى اليوم عدد ما تراه من عانة ضئيلة١ تعرض لك من حمر الوحش في جانب البر الواسع ثم تغيب وتسفي الريح على آثارها وسنعد لك عدا، لتصدر في هذه الدعوى عن روية، وتحكم في تاريخ المعارضة عن بينة، وتعلم القدر الذي بلغوه أو قيل إنهم بلغوه، فإن حصر ذلك وبيانه على جهته يشبه أن يكون بعض ما يشهد به التاريخ من إعجاز القرآن. وإن الحق ليجمع عليه الناس كافة ثم يكابر فيه الواحد والاثنان والنفر والرهط، فتكون مكابرتهم فيه وجهًا من الوجوه التي يثبت بها ويغلب:

١- فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب، تنبأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وفد عليه وأسلم، كان يصانع كل إنسان ويتألفه، ولا يبالي أن يطلع أحد منه على قبيح؛ لأنه إنما يتخذ النبوة سببًا إلى الملك، حتى عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده، وكتب إليه في سنة عشرة للهجرة: "أما بعد: فإني قد شوركت في الأرض معك، وإنما لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكن قريشًا قوم يعتدون ... ! ".

وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرَّجَّال٢ قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ القرآن وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، إذ شهد أنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول إن مسيلمة قد أشرك معه! فصدقوه واستجابوا له؛ وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوه -إن هو لم يقبل- أن يعينوه عليه، فكان الرجال لا يقول شيئًا إلا تابعه مسيلمة؛ وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرف أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في العرب، ليحكيه ويتشبه به، وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله، وفي "تاريخ الطبري" من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحت أو لم تصح.


١ العانة: الجماعة من الحمر الوحشية.
٢ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلست مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط معنا الرَّجَّال بن عنفوه. فقال: إن فيكم رجلًا ضرسه في النار أعظم من أحد "وهو الجبل المعروف" فهلك القوم وبقيت أنا والرَّجَّال، فكنت متخوفًا لها حتى خرج الرجال مع مسيلمة فشهد له بالنبوة!.
والرجال في الرواية المشهورة بالجيم. وفي بعض الروايات أنه بالحاء، وقد قتل في حرب خالد بن الوليد لمسيلمة وأهل اليمامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>