للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد زعم مسيلمة أن له قرآنًا نزل عليه من السماء ويأتيه به ملك يسمى رحمن ... بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسل به في أمر أن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سئل فيه وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا، ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه، ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعًا١ فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة وتأتى إلى أنفسهم منها٢.

ومن قرآنه الذي زعمه قوله -أجزاه الله: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنا ... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه والباغي فناوئوه ...

وقوله: والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون٣.

وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل ...

وقال الجاحظ في "الحيوان" عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيها فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.

وكل كلامه على هذا النمط واه سخيف لا ينهض ولا يتماسك، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه ولكن لذلك سببًا نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.

٢- ومنهم عبهلة بن كعب الذي يقال له الأسود العنسي، يلقب ذا الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خمار، وكان رجلًا فصيحًا معروفًا بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنسب؛ وقد تنبأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخرج باليمن، ولا يذكرون له قرآنًا غير أنه كان يزعم أن الوحي ينزل عليه، وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ أكب ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت، يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جبارًا،


١ لذلك سبب فلسفي يرجع إلى رغبة الكهان في استهواء من يستمع إليهم.
٢ وما خفي هذا الأمر عن بلغاء العرب وحكمائهم. وأنه استعانة على النفس الضعيفة بأقوى منا فيها، وأنه كسائر ما يأتيه الرجل تمويه للصدق وتصنع للحمق فيه، وقد قيل إن الأحنف بن قيس أتى مسيلمة مع عمه، فلما خرجا من عنده قال له الأحنف: كيف رأيته؟ قال: ليس بمتنبئ صادق ولا بكذاب حاذق ... !
٣ المذق: مزج اللبن بالماء، والمجع: اللبن يشرب على التمر، أو تمر يعجن باللبن، ولعمر الله ما ندري أكان هذا القرآن ينزل على قلب مسيلمة أو على معدته.... أو كان بين قوم جياع فتأثيره أن يسيل لعابهم!.

<<  <  ج: ص:  >  >>