للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقيل: إن من كتابه هذا قوله: "أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إن الكافر لطويل الويل وإن العمر لمكفوف الذيل؛ تعد مدارج السيل؛ وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج".

فلفظة "ناج" هي الغاية، وما قبلها فصل مسجوع، فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية، وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم؛ لأنها تأتي خواتم لآياته، فكأن المعارضة نقض للوضع ومجاراة للموضوع، وكأنها صنعة وطبع.

وتلك لا ريب فرية على المعري أراده بها عدو حاذق؛ لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلا أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأن البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصابًا لألفاظها، وتوطينًا لغرائبها كما يصنع؛ وأن الفصاحة شيء غير صلابة الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثرًا يسقط بعضه في جهة وينهض بعضه من جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية؛ وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى فساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شر من هذا كله، وما أسلوب المعري إلا من هذا كله.

على أن المعري -رحمه الله- قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي، فقال: "وأجمع ملحد ومهتدي، وناكب عن المحجة ومقتدي, أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب, وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق" ا. هـ.

ولا يعقل أن يكون الرجل قد أسر في نفسه غير ما أبدى من هذا القول ولم يضطره شيء إليه، ولا أعجله أمر عن نفسه ولا كان خلو رسالته١ منه تضييعًا ولا ضعفًا، ولا نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرآن أمر على حدة؛ فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة٢.

وبعد، فهذا الذي وقفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة؛ أما إن القرآن الكريم لا يعارض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدهم الجن بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه، ولا يستعجم على كل بليغ له بصر بمذاهب العرب في غلتها وحكمة مذاهبها في أساليب


١ رسالة الغفران.
٢ أي: هو كلام بين الأيدي، يمر فيه النظر ويجري عليه النقد حكمه، لا كالغيبيات مما تزيغ فيه بعض العقول غافلة عن الفرق بين القدرة فيما يتناهى والقوة فيما لا يتناهى وعن استحالة تمثل هذه في تلك إلا على قدر وعند حد.

<<  <  ج: ص:  >  >>