للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غريبة فيه لم يكونوا يعرفونها إلا توهمًا، ولضعف غريب من أنفسهم لم يعرفوه إلا بهذه القوة؛ لأن المعنى الواحد يتردد في أسلوبه بصورتين أو صور كل منها غير الأخرى وجهًا أو عبارة، وهم على ذلك عاجزون عن الصورة الواحدة، ومستمرون على العجز لا يطيقون ولا ينطقون. فهذا لعمرك أبلغ في الإعجاز وأشد عليهم في التحدي؛ إذ هو دليل على مجاوزتهم مقدار العجز النفسي الذي قد تمكن معه الاستطاعة أو تتهيأ المعاريض حينًا بعد حين، إلى العجز الفطري الذي لا يتأول فيه المتأول، ولا يعتذر منه المعتذرون ولا يجري الأمر فيه على المسامحة.

وقد خفي هذا المعنى "التكرار" على بعض الملحدة وأشباههم ومن لا نفاذ لهم في أسرار العربية ومقاصد الخطاب والتأني بالسياسة البيانية إلى هذه المقاصد، فزعموا به المزاعم السخيفة وأحالوه إلى النقص والوهن، وقالوا إن هذا التكرار ضعف وضيق من قوة وسعة، وهو -أخزاهم الله- كان أروع وأبلغ وأسرى عن الفصحاء من أهل اللغة والمتصرفين فيها، ولو أعجزهم أن يجيئوا بمثله ما أعجزهم أن يعيبوه لو كان عيبًا!

وفي بعض ذلك التكرار معنى آخر فطن إليه بعض علمائنا ولم يكشف لهم عن سره، وأول من نبه عليه الجاحظ في كتاب "الحيوان" إذ قال١: "ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلام" أي: كأن ذلك مبالغة في إفهامهم وتوسع في تصوير المعاني لهم وتلوينها بالألفاظ، إيجازًا في موضع وإطنابًا في موضع إذا كانوا قومًا لا سليقة لهم كالعرب وليسوا في حكمهم من البيان، فلا يمضي كلامه لسننه بلا اعتراض من تنافر التركيب وثقل الحروف وجفاء الطبيعة اللغوية، فلهذا ونحوه كان لا بد في خطابهم من التكرار والبسط والشرح، بخلاف العرب، فإن الخطاب يقع إليهم على سنن كلامهم من الحذف، والقصد إلى الحجة، والاكتفاء باللمحة الدالة، وبالإشارة الموحى بها، وبالكلمات المتوسمة، وما يجري هذا المجرى، وهو قول صحيح في الجملة٢ بيد أنهم أخطئوا وجه الحكمة فيه؛ إن اليهود لم يكونوا من الغلظة والجفاء والاستكراه بحيث وصفوهم، أو بحيث يجوز ذلك في صفتهم، وإن فيهم لمتكلمين، وإن منهم لشعراء والخطاب في القرآن كان يسمعه العرب واليهود جميعًا، فلا هؤلاء ينكرون من أمره ولا أولئك.

ونحن فما ندري كيف نبلغ صفة هذا الوجه المعجز الذي غاب عن العرب ولم يدركه إلا المقصودون به، وهم الذين وصفوهم بتأخر المعرفة وبلادة الذهن، وهم أحبار اليهود ورؤساؤهم وأهل العلم فيهم، وما يمكن أن يهتدي إلى هذا الوجه بليغ عربي من بلغاء ذلك العهد إلا بوحي


١ نقل العسكري هذه العبارة في كتاب "الصناعتين" ولم يعزها، فكأنه هو استخراج هذا المعنى ابتداء، وكم من مثلها في كتابه.
انظر ص٤٦ ج١ من "الحيوان" فلا تشك أن العسكري نقل عن الجاحظ.
٢ كان في اليهود شعراء فصحاء: كالسموأل وكعب بن الأشرف وغيرهما. وكان لشعر اليهود باب متميز في الرواية بعد الإسلام. والعرب لا يعدون اليهود منهم وإن كانت الدار واحدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>