للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتوفيق من الله، فإنه في الحقيقة سر من أسرار الأدب العبراني، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصة ليعلموا أنه وضع غير إنساني، وليحسوا معنى من معاني إعجازه فيما هو بسبيله، كما أحس العرب فيما هو من أمرهم؛ إذ كان أبلغ البلاغة في الشعر العبراني القديم أن تجتمع له: رشاقة العبارة، وحسن المعرض، ووضوح اللفظ، وفصاحة التركيب، وإبانة المعنى، وتكرار الكلام لكل ما يفيده التكرار وتوكيدًا وبمالغة وإبانة وتحقيقًا ونحوها، ثم استعمال الترادف في اللفظ والمعنى، ومقابلة الأضداد وغيرها، مما هو في نفسه تكرار آخر للمحسنات اللفظية، وتحسين للتكرار المعنوي.

وإنا لنظن أن تهمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر لم تكن ابتداء إلا من قبل بعض اليهود، ثم تعلق بها بعض العرب مكابرة، فإنهم ليعرفون أن القرآن ليس بشعر من شعرهم، ولا هو في أوزانه، وأعاريضه وفنونه وطرقه ولكنهم تجوزوا إلى ذلك ببراعة العبارة، وسمو التركيب، وتصوير الإحساس اللغوي بألوان من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها مما يكون القليل من جيده خاصا بالفحل من شعرائهم. ويكون مع ذلك حقيقة الإحساس اللغوي في شعره، وأن هذا الوجه البعيد الذي لا يستقيم في الرأي إلا بعد التمحل له، والتجوز فيه من قولهم إنه "شاعر"؟ ولفظ الشاعر عندهم متعين المعنى متحقق الدلالة ليس فيه لبس ولا إبهام ولا تجوز١؟

على أن كلامنا آنفًا في عجز العرب من معارضة السورة القصيرة من القرآن, وعدم تأتيهم لذلك بالسبب الذي بيناه، لا يؤخذ من أن غير العرب المحدثين والمولدين وسائر من يكونون عربًا في اللسان دون الفطرة، يستطيعون ما لم يأت لأولئك؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساس لغوي تستبد به روعة الكلام وتصرفه بالكثير عن القليل لتمثل الأصل اللغوي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز؛ لأنه سر التركيب والنظم. فيقال من ذلك إن المولدين ومن في حكمهم تتهيأ لهم معارضة السور القصار والآيات القليلة، ويتأتون إلى ذلك بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنهم مع هذه الوسائل كلها أبعد من العرب في أسباب العجز، وأدنى إلى التقصير، وأقرب إلى الهجنة


١ سنكشف عند الكلام على البلاغة النبوية عن السبب الصحيح الذي من أجله لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا، وما ينبغي له الشعر ولا يلتئم على لسانه، وهو الذي خبط فيه العلماء والمفسرون.
وقد أراد الجاحظ أن يقابل معاني التسمية الشعرية فيما عند العرب بما في القرآن فقال: سمى الله تعالى كتابه اسمًا مخالفًا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل: سمى جملته قرآنًا كما سموا ديوانًا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آيات كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية ا. هـ. ولا ندري ما وجه هذه المقابلة وليس من شبه في كل ما ذكره إلا في الوضع ولا في الموضوع، إلا أن يكون الجاحظ مأخوذًا بقول العرب إنه شعر، يحسب ذلك من عندهم وأنهم يحققونه فأراد أن يدل على أن الأمر بالخلاف حتى في التسمية. وليس ذلك من الشأن والمنزلة في خلاف ولا موافقة.
على أن هذه التسمية اختراع لم يكن يعرفه العرب، فهي من هذه الجهة دليل من الأدلة الكثيرة على أن الأمر بجملته فوق القوة والطاقة ومن وراء المألوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>