للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا هم تعاطوه؛ لأن أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنه لا يعدو حالة من حالتين:

إما أن يتعلق على الألفاظ وأوزان الكلام في اللسان ويمضي في مثل نظم القرآن، فينظر في الحرف بين الحرفين ملاءمة واحتباكًا، وفي الكلمة بين الكلمتين تناسبًا واطرادًا، وفي الجملة إزاء الجملة وضعًا وتعليقًا، ويمر ذلك حتى يخرج من السورة، وهذه أسوأ الحالين أثرًا عليه وأشدها إزراء به وأبلغها فصيحة له؛ لأنها تنادي على كلامه بالصنعة، وتدل في مقاطعه على مواضع الكلام والفتور، وتومئ في نظامه إلى عثرات الطبع إذ يعمل على السخرة ويأخذ بالمحاكاة دون أن يذهب في البيان على سجيته، ويمضي في أسلوبه الذي يتعلق بمزاجه وأحواله النفسية١. وهذا مع ضيق الكلمات القليلة أن تسع شيئًا من المحسنات أو تستوفي وجهًا من وجوهها، ومع أن المقابلة بين الأصل والمعارضة ستؤدي إلى البحث في سر النظم وطريقة التأليف من الجملة إلى الكلمة إلى الحرف، وهو مذهب استبد به نظم القرآن -كما ستعرفه- حتى كأنه استوفى من اللغة كل ما يمكن أن يتهيأ منه؛ فإما ألفاظه بأعيانها وأجراس حروفها إذا أريد مثل نظمه، وإما الخروج بالكلام إلى نظم آخر في طريقة غير طريقته؛ وذلك من أعجب ما فيه حتى ما يقضي منه البليغ عجبًا. ومهما أراغ٢ الإنسان وجه التخلص إلى معارضته بمثل نظمه فإنه يرى نفسه بإزاء ألفاظه من أين دار وكيف انقلب، ولا تنصرف هذه الألفاظ عنه إلا أن يزيغ طريقة أخرى من الكلام فتتلقاه اللغة بألفاظها وتراكيبها من كل جهة حتى يسعها وتسعه.

فهذه هي إحدى الحالتين؛ والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهبًا لا يتقيد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وإنما همه في المعارضة أن يجود ويبين اللفظ ويجزل قسطه من الصناعة، وأن يتولى الكلام بالروية والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها؛ لأن مثل ذلك لا يتأتى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، إلا أن تكون مثلًا مضروبًا، أو حكمة مرسلة، أو نحو ذلك مما يقصر بطبيعته في الدلالة وتستوفي القصة أو الحالة المقرونة به شرح معناه ويكون هو روح هذا المعنى؛ فإنه ما من حكمة أو مثل أو ما يجري مجراها إلا وأنت واجد لكل من ذلك قصة قيل فيها، أو حالة قيل عليها؛ ثم لا يقع من نفسك موقعًا يهز ويعجب حتى تكون القصة أو الحالة أو ما تفهمه منهما قد سبقته إلى نفسك، أو صارت معه إلى ذلك الموضع منها، فإن أنت وقفت على حكمة لا تعرف وجهها، أو سمعت مثلًا لم يقع إليك مساقه، أو لا تكون معه قرينة تفسره، فقلما ترى من أحدهما إلا كلامًا مقتضبًا أو عبارة مبهمة, تخرج مخرج اللغز والمعاياة، واحتاج على كل حال إلى روية تتنزل منه منزلة ذلك الشرح الذي يعطيه مساق القصة أو صفة الحالة، وانظر أين هذا من أغراض السور والآيات الكريمة؟


١ لهذا المعنى شرح طويل، وسنلم به في موضعين من هذا الجزء. ثم نمسك عن بسطه إلى موضعه من كتابنا "تاريخ آداب العرب" في باب الإنشاء إن شاء الله.
٢ أراغ: أراد وطلب على وجه المكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>