للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأنت ترى أن معارضة السور القصار١ أشد على المولدين ومن في حكمهم من إرادة الطوال بالمعارضة، وإن أرادوا مثل النظم أو لم يريدوه، على أن المعارضة لا تكون شيئًا يسمى، ما لم تكن بمثل النظم والأسلوب؛ أما النظم فقد علمت وجه استحالته، وأما الأسلوب فستعلم وجه الأمر فيه.

وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها، لتحقيق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضة ذلك وترادفها بما هو مقطعة للأمل، ومن تعلق الآية بما قبلها، وتسببها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجول الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟

وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما


١ إن لهذه الصور القصار لأمرًا، وإن لها في القرآن لحكمة من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فهي لا تنزل متتالية في نسق واحد على الترتيب الذي تراه في المصحف: إذا لم يكن أول ما نزل من القرآن ولا آخرة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم هي بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء واحد، والقرآن كله ثلاثون جزءًا. وهو يتسع من بعدها قليلًا وكثيرًا حتى ينتهي إلى الطوال. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة وأولها في المنزلة هذه السورة القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة والتي هي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قليلة مع قصر ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ كما سنشير إليه في موضع آخر، فهذا معنى من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا أردت أن تبلغ عجبًا من هذا المعنى، فتأمل آخر سورة في القرآن وأول ما يحفظه الأطفال، وهي سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} وانظر كيف جاءت في نظمها وكيف تكررت لفظة الفاصلة وهي لفظة "الناس" وكيف لا ترى في فواصلها إلا هذا الحرف "السين" الذي هو أشد الحروف صفيرًا وأطربها موقعًا من سمع الطفل الصغير وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها، ثم نظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذي أشرنا إليه, وكيف تمت الحكمة في هذا الترتيب العجيب.
وهذه السور القصار لو لم تكن في القرآن الكريم كلها أو بعضها ما نقصت شيئًا من خصائصه في الإعجاز، ولكن عسى أن يكون الأمر في حفظه على غير ما نرى إذا هي لم تكن فيه. فتبارك الله سبحانه {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} .
ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى وهي تيسير القرآن وأداء الصلاة على الأمة فإنهم لولا هذه السورة لتركوا الصلاة جميعًا إذ لا تصح الصلاة إلا بآيات مع الفاتحة؛ وقد أغنتهم القصار ويسرت عليهم فكانت على ما تضمنته وحفلت به معجزة اجتماعية كبرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>