للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعد خروج القرآن من أساليب الناس كافة دليلًا على إعجازه، وعلى أنه ليس من كلام إنسان، بيد أننا لم نر أحدًا كشف عن سر هذا المعنى، ولا ألم بحقيقته، ولا أوضح الوجه الذي من أجله خالف أسلوب القرآن كل ما عرف من أساليب الناس ولم يشبه واحدًا منها، ونحن نوجز القول فيه؛ لأنه أصل من أصول الكلام في أساليب الإنشاء ولبسطه موضع سيأتيك في بابه إن شاء الله١.

فقد ثبت لنا من درس أساليب البلغاء، وترداد النظر في أسباب اختلافها وتصفح وجوه هذا الاختلاف، وتعرف العلل التي أثرت في مباينة بعضها لبعض، من طبيعة البليغ وطبيعة عصره أن تركيب الكلام يتبع تركيب المزاج الإنساني، وأن جوهر الاختلاف بين الأساليب الكتابية، في الطريقة التي هي موضع التباين لا في الصنعة كالمحسنات اللفظية ونحوها, إنما هو صورة الفرق الطبيعي الذي به اختلفت الأمزجة بعضها عن بعض على حسب ما يكون فيها أصلًا أو تعديلًا؛ كالعصبي البحت، والعصبي الدموي، وغير ذلك مما هو مقرر في الفروع الطبية، حتى كأن الأسلوب في إنشاء كل بليغ متمكن ليس إلا مزاجًا طبيا للكلام، وما الكلام إلا صورة فكرية من صاحبه. وقد أمعنا في هذا الاستنتاج، وقلبنا عليه كل ما نقرؤه من أساليب العربية -وهي معدودة- ومررنا على ذلك زمنًا، حتى صار لنا أن نستوضح أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، برد ذلك إلى الأوصاف النفسية التي تكون من تأثير الأمزجة٢ والتي قلما تختلف في الناس، وبها أشبه بعضهم بعضًا، وبها كان التاريخ يعيد نفسه.

وأنت تتبين هذه الحقيقة إذا عرفت أديبًا ليمفاوي المزاج مثلًا، وأردته على أن يأخذ في أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبية, فإنه لا يصنع شيئًا، وإذا نتج له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلا مضطربًا متعثرًا مطبقًا بأبواب التعسف والتكلف، وكأنه نتاج بين نوعين متباينين من الخلق؛ ولكن هذا الأديب عنه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترسل المتداخل الذي ليس حذرًا ولا مساوقة كترسل الجاحظ وأضرابه فقد لا يتعلق بجيده في ذلك شيء.

ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبون كيف لا يتهيأ لأحدهم أسلوب كأسلوب ابن المقفع أو عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقل له طريقة من ذلك على كثرة ما حاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته؛ ولا يدرون أنهم يحملون سر إخفاقهم، وأن أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطًا بين أسلوبين.

وهذا عبد الحميد الكاتب رأس تاريخ الكتابة العربية وواضع طريقتها، فقد أخذ نفسه بحفظ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرادها على طريقته، ثم جاءت كتابته فنا آخر لم


١ في باب الإنشاء من تاريخ آداب العرب إذا وفقنا الله لإتمام هذا الكتاب ويسر لنا الوقت بعونه وتيسيره.
٢ يستدلون في أوروبا من الإنسان على طباعه، فبالكتابة أولى.

<<  <  ج: ص:  >  >>