للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يستحكم اتفاق الأسلوب بينها وبين ما أثر من كلام الإمام علي، وقد قيل إن "نهج البلاغة"١ مصنوع، وضعه الشريف الرضي ونجله أمير المؤمنين، والصحيح أن فيه الأصل والمولد, وربما انفردا وربما تمازجا ونحن نستطيع بطريقتنا أن نزايل بين ما فيه من ذلك، ونبين وضعًا من وضع؛ فإن المزاجين لمختلفان كما يعرف من صفة الإمام علي ومن صفة الشريف.

من ذلك يخلص لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه؛ لأنه ليس وضعًا إنسانيا ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوبًا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بد في طريقته ونسقه ومعانيه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ؛ ولقد أحس العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم ولولاه ما أفحموا ولا انقطعوا من دونه؛ لأنهم رأوا جنسًا من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعة غير مخلوقة؟

ولما حاول مسيلمة أن يعارضه جعل يطبع على قالبه، فجاء بشيء لا يشبهه ولا يشبه كلام نفسه، وجنح إلى أقرب ما في الطباع الإنسانية وأقوى ما في أوهام العرب من طرق السجع، فأخطأ الفصاحة من كل جهاتها, وإن الرجل على ذلك لفصيح٢.

وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضًا، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} صدق الله العظيم.

وبعد فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لحر اللفظ ونادر المعنى، وأخلقه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسم مادة الطبع في معارضته، هو ذلك الذي تريده كلامًا فتراه نفسا حية، كأنها تلقي عليك ما تقرؤه ممزوجًا بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك -إن كنت بصيرًا بالصناعة متقدمًا فيها- كل مدخل، ولا تدع فيها إحساسًا إلا أثارته، ولا إعجابًا إلا استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهًا من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه، وتقرؤه وكأنك تسمعه، ثم لا يلج إلى فؤادك حتى تصير كأنك أنت المتكلم به، وكأنه معنى في نفسك ما يبرح مختلجًا ولا ينفك ماثلًا من قديم؛ مع أنك لم تعرفه إلا ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له؛ وذلك بما جوده صاحبه، وبما نفث من روحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعًا من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعًا فكأنه مادة روحية منه.


١ هو الكتاب الذي جمع فيه الشريف الرضي كلام سيدنا علي، وفي صحة هذا الكتاب أو تزويره كلام للعلماء ليس هذا موضعه.
٢ مما يثبت أن العرب قد أحسوا هذا المعنى الذي بيناه، وأنهم كانوا يعرفون من طابع القرآن أنه ليس طبعًا إنسانيا، ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وكان أنسب العرب وأعلمهم بلغاتها وأشعارها وأمثالها، سأل أقوامًا قدموا عليه من بني حنيفة عن كلام مسيلمة وما كان يدعيه قرآنًا، فحكوا بعض ما نقلناه في موضعه فقال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم! إن هذا الكلام لم يخرج عن إل "أي: عن ربوبية" فأين كان يذهب بكم؟ فتأمل قوله: "لم يخرج عن إل" فإنه نص فيما ذكرناه؛ لأنه تراه أسلوبًا من أساليب الناس ولا يحس منه قدرة فوق القدرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>