للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموسيقي اللغوي فيهم، حتى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم -مما يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف- ما لم يكن مثله للعرب من قبلهم، وحتى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسل على جفاء كان فيهما، إلى سجع وترسل تتعرف في نظمهما آثار الوزن والتلحين، على ما يكون من تفاوتهم في صفة ذلك ومقداره، ومبلغهم من العلم به، وتقدمهم في صنعته.

ولولا القرآن وهذا الأثر من نظمه العجيب، لذهب العرب بكل فضيلة في اللغة، ولم يبق بعدهم للفصحاء إلا كما بقي من بعد هؤلاء في العامية، بل لما بقيت اللغة نفسها، كما بسطناه في موضعه.

وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدا أو غنة أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها؛ ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع؛ أو الإطناب والبسط؛ بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها، مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن على طرق الأداء الصحيحة لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها في هز الشعور واستثارته من أعماق النفس؛ وهو من هذه الجهة يغلب بنظمه على كل طبع عربي أو أعجمي١، حتى إن القاسية قلوبهم من أهل الزيغ والإلحاد، ومن لا يعرفون لله آية في الآفاق ولا في أنفسهم، لتلين قلوبهم وتهتز عند سماعه؛ لأن فيهم طبيعة إنسانية؛ ولأن تتابع الأصوات على نسب معينة بين مخارج الأحرف المختلفة، هو بلاغة اللغة الطبيعية التي خلقت في نفس الإنسان، فهو متى سمعها لم يصرفه عنها صارف من اختلاف العقل أو اختلاف اللسان؛ وعلى هذا وحده يؤول الأثر الوارد أن في الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا؛ لأنه يجنب هذا الكمال اللغوي ما يعد نقصًا منه إذا لم تجتمع أسباب الأداء في أصوات الحروف ومخارجها، وإنما التمام الجامع لهذه الأسباب صفاء الصوت، وتنوع طبقته، واستقامة وزنه على كل حرف.

وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان


١ وهذه حالة مطردة يعرفها الناس جميعًا، وما من أعجمي يسمع ترتيل القرآن إن فهمه أو لم يفهمه إلا اعترته رفة للشجى والنظم، وأحس أن هذه الآيات تتموج في نفسه وتجيش نفسه بها، مع أنه لا يعتريه من ذلك شيء إذا هو سمع الألحان العربية في الغناء والشعر، وقد لا يجد في الموسيقى ضربًا أسخف منها، لمكان اختلاف الأذواق، وما تجده ملحدًا لا يؤمن بالله إلا وهو مؤمن بهذا الإعجاز في كتابه حين يسمعه مرتلًا من صوت جميل، كأن النبوة حينئذ تلامسه.
وكل من يزعم أن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع ألبتة أن يشرك مع القرآن كلامًا آخر في هذه الخاصة، فكأنه يقر بمعنى الإعجاز وينكر لفظه، وما كان الدليل على الحقيقة من لفظ الحقيقة، بل هي لا يدل عليها شيء كثبوت معناها، وهل اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>