للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الموسيقى نفسها؛ أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن١، فإن لم تنته بواحدة من هذه، كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى، كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، وماسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو ضروب أخرى من النظم الموسيقي.

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه للعجز، فتألقت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بينًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حس السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت هجنة في السمع، كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تنفق على طبقاتها، وخرج بعضها طولًا وبعضها عرضا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة.

ومما انفرد به القرآن وباين سائر الكلام، أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة؛ وكلما أخذت فيه على وجه الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضا طريا، وجديدًا مونقًا، وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحسا موفورًا، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوق الحروف ويستمري تركيبها ويمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه. وهو لعمر الله أمر يوسع فكر العاقل ويملأ صدر المفكر، ولا نرى جهة تعليله ولا نصحح منه تفسيرًا إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطًا وإيجازًا، وابتداء وردا، وإفرادًا وتكريرًا.

هذا على أنه ترسيل واتساق وتطويل، لا يضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي؛ ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان وضروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت وطريقة تصريفه وتوقيعه، لا إلى أصوات الحروف ووجه تأليفها وتتابعها فيحسن مع أهل الصناعة وإن كانت حروفه غثة التركيب سمجة المخارج وكانت


١ وقال بعض العلماء: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون، وحكمة وجودها التمكن من التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهم "أي: العرب" إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون؛ لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع، وهذا قول ناقص، لا يبسطه ولا يتمه إلا ما ذكرناه من تأويله.

<<  <  ج: ص:  >  >>