للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يستفرغ مجهودها، بل هو مقتصد في كل أنواع التأثير عليها، فلا تضيق به ولا تنفر منه ولا يتخونها الملال. ولا تزال تبتغي أكثر من حاجتها في التروح والإصغاء إليه والتصرف معه والانقياد له، وهو يسوغها من لذتها ويرفه عليها بأساليبه وطرقه في النظم والبيان١، مع أن أبلغ ما اتفق للبلغاء لا تجمع منه النفس بعض ذلك حتى يتعسفها ويثقل عليها وتبتلي منه بالتخمة وسوء الاحتمال، وحتى لا تكون البلاغة في سائره بعد ذلك إلا طعمة خبيثة؛ لأنها جاءت من وراء القصد وفوق الحاجة فلا تعدم النفس أن تجد من جماله قبحًا، ومن صوابه خطأ؛ ولا يمتنع أن يكون فيه النافر والقلق والمحال عن وجهه وما إلى ذلك مما تسكن النفس إلى تأمله وتستجم بتصفحه والبحث عنه واعتراضه في سياق الكلام ونسق التركيب.

وهذا أمر ليس في قدرة أحد أن ينفيه عن كلام البلغاء متى امتد به النفس واتسقت له المعاني وتداخلت فيه الأغراض، ولا نرى أحدًا يقدر على أن يثبت منه شيئًا في القرآن؛ لأن طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة، كما يكون للخالص من ضروب الموسيقى، على ما هو معروف من تأثيرها في النفس ووجه هذا التأثير، بل هو النفس العربية كالحداء للإبل العربية؛ مهما كدها السير لم يزدها إلا إمعانًا فيه ولم تستأنف منه إلا نشاطًا واعتزامًا حتى ليذهب بها المراح وكأنها تريد أن تسابق الحروف والأصوات المنبعثة من أفواه من يحدونها.

ولو ذهبنا نبحث في أصول البلاغة الإنسانية عن حقيقة نفسية ثابتة قد اطردت في اللغات جميعًا وهي في كل لغة تعد أصلًا في بلاغتها، لما أصبنا غير هذه الحقيقة التي لا تظهر في شيء من الكلام ظهورها في القرآن وهي: "الاقتصاد في التأثير على الحس النفسي". وما تعرف في هذه الأساليب العربية خاصة -وقد مخضناها جميعًا وفررنا باطن أمرها- إلا إسرافًا على هذا الحس، أو تراجعًا من دونه؛ فأما أمر بين ذلك على أن يكون قصدًا، وألا يكون إلا المحض من هذا القصد، وأن لا تجده إلا سواء في محض الاعتبار من حيث أجريته على هذه الحقيقة فلا يكون من شأنه أن يلتوي معك في جهة ويلتوي عليك من جهة، فهذا ما لا نعرفه على أتمه وأبينه إلا في القرآن، ولا نعرف قريبًا منه إلا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بين الجهتين ما بينهما٢.

ولما كان الأصل في نظم القرآن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة٣ كما تجد من كل ذلك في أساليب


١ وبهذا سهل على أكثر البلغاء والعلماء من أهل السمت والورع أن يختموا القرآن مرة في كل يوم، وهو أمر فاش لا سبيل بعد إلى المكابرة فيه. وكان كثير منهم إذا أقبل على ربه ووقف بين يديه في صلاته، قرأ في الركعة الواحدة سورة من الطوال أو سورتين، إلى ربع القرآن، وهو في ذلك مستغرق لا يمل، وكأنه ليس في الأرض أو ليس من أهلها.
٢ نجد بسط هذا المعنى في الكلام على البلاغة النبوية وكيف كان وجهًا في أنه "صلى الله عليه وسلم" أفصح العرب.
٣ أي: استغاثة من ضعف واستراحة من كلال؛ فكأن الكاتب أو المتكلم يتغوث به.

<<  <  ج: ص:  >  >>