للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فنون البلاغة، وتأدت بهم إلى حيث بلغوا من تتبع كلام العرب والاستقصاء فيه والكشف عن محاسنه، وأغرى بعض ذلك من بعضه، وأعان كل على كل، حتى اجتمعت المادة وتلاحقت الأسباب ولولا ما صنعوا لخرج الناس إلى العجمة، ولذهبت هذه الآداب ولما بقي في الأرض إلى اليوم من يقول إن القرآن معجز!.

وذلك بأن العرب لم يكن لهم من البلاغة إلا علم الفطرة، ولم يكن لمن بعدهم من هذه الفطرة إلا ما ترجعه الوراثة من أوليتهم، وهي شيء تتولاه العصور بالتحول والزيغ، وتدأب عليه بالنقض والاختلاف، حتى يخرج عن أصله إلى أن يكون أثلًا جديدًا، ثم إلى أن تنشق منه أصول أخرى وهي الطريقة التي تنشأ بها اللغات وتستمر وتذهب في الاشتقاق، فلا يبقى على ذلك من البلاغة العربية شيء ينفذ إليه العلم أو تستطيعه القدرة، إذ تكون العربية نفسها قد درست وانتثرت بقاياها في القبور والأنقاض١.

ومن البين أن أخص أسباب الارتقاء كائن في الغلبة، والتميز والانفراد حيث وجدت، فلو جاء القرآن مثل كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صلح أن يكون سببًا لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ ولا ينفرد ولا يستعلي.

فتدبر أنت هذا الأمر العجيب الذي كان الأصل فيه نزول آيات التحدي، وتأمل كيف أثبت القرآن إعجازه على الدهر بهذه الآيات القليلة، وكيف ضمن بما وراءها نشأة العقول التي تدرك هذا الإعجاز وتقر به، وتكون مادة لتاريخه الأبدي، لا تضعف ولا تنحسم؟ وهل بعد هذا من ريب في قول الله تعالى يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} فقد علم الله


= إذا كان من أقواهم فكرًا، وأصحهم رأيًا، وأبلغهم قلمًا، فإن لم ينتقدك هذا ومثله فادفعهم إليك دفعًا، وتحدهم تحديًا، وارمهم بالعجز إذا لم يفعلوا، فإن الحجة ليست لك ولا هي لهم، وإنما تنحاز إلى الغالب منكما، وحتى الحجة الصحيحة فإنها أبدًا في حاجة ماسة إلى حجة أخرى تؤيدها، أو تفسرها، أو تحدها، أو تمنع اللبس بينها وبين غيرها، فكل شيء فإنما صحته وتمامه في معارضته ونقده, إذ إن المعارضة نصف الحق، وإن هي لم تكن حقا؛ لأنها تبينه وتجلوه وتقطع عنه الألسنة وتنفي عنه الظنة، ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة في القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية، هو وحده الذي انفرد بتحدي الخلق وإثبات هذا التحدي فيه، وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني، ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة، معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فما بالحجتين جميعًا وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققت إلا انتصار في معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحار فيها، لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقول الميزان العقلي في هذه الإنسانية".
١ وهذا هو الذي يحاوله المستعمرون ويعمل فيه الملحدون ممن فسقوا عن الإسلام فيريدون أن يكون لكل أمة من الأمم الإسلامية لغة إقليمها حسب حتى تسنى العربية فيذهب بذهابها التاريخ الإسلامي كله، وقد فصلنا ذلك في كتابنا "تحت راية القرآن" فانظر فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>