هذا الأمر كيف يكون وكيف يثبت، فقدره بعلمه وفصله بحكمته قبل أن يقع، فانظر إلى آثار رحمة الله.
أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرتها وكيفما تأملتها وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها ومن أي جهة وافقتها؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلاف حروفها وتباين معانيها وتعدد مواقعها من أن تكون جوهرًا واحدًا في الطبع والصقل، وفي الماء والرونق؛ كأنما تتلامح بروح حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالِطَ إحساسك فلن تكون معها إلا على حالة واحدة.
تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحًا تداخلك بالطرب، وتشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حسن الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام، وتصحفت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفل، أو يستمر وينتقض، أو يأتلف ويختلف ... إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلال أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخلقة وطريقة النشأة وأسباب التحصيل وآلات الصناعة إذ كل ذلك ليس في كل الطباع الإنسانية على سواء.
فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها ويغلب عليك شبيه في التمثيل مما يغلب على أهل الحس بالجمال إذا عرضت لأحدهم صورة من صوره الكاملة، فإن لهم ضربًا من النظر يعتريهم في تلك الحالة خاصة، ولو سميته حسن النظر الفكري لم تبعد، فهو يبتدئ في الصورة الجميلة ويستتم في النفس، فلو أنها أغمضت العين دونها لبقيت الصورة ماثلة بجملتها في الفكر، ولو وقفت العين على وجهة واحدة منها لوصلها الفكر بسائر أجزائها فتمثلت به سوية التركيب تامة الخلق، في حين لا ترى العين إلا هذه الجهة وحدها.
وذلك أمر متحقق بعد في القرآن الكريم: يقرأ الإنسان طائفة من آياته فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحس ترافد ما بعدها وتمده، فلا تزال هذه الصفة في لسانه ولو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكّرت منها، أو أبرزتها على ظل هي فيه. أو دفعتها عن ماء هي إليه، ولا يرى ذلك كله إلا سواء وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، لا يغتمص في هذا إلا كاذب على دخلة ونية، ولا يهجن منه إلا أحمق على جهل وغرارة، ولا يمتري فيه بعد هذين إلا عامي أو أعجمي {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
إن طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحس الكلمة وصفتها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام،