قلنا: وهذا الذي وصفه، على ما فيه من النقص، هو أكبر السبب لا كل السبب وسنفصل ذلك في باب الشعر والإنشاد من تاريخ آداب العرب، فإن هناك موضعه، أما ما أشار إليه من إعجاز الحديث، وأن ذلك في وزن إعجاز القرآن كما توهم عبارته فسنقف على حقيقته, وعلى فصل ما بين الاثنين في موضعه مما يأتيك في الكلام على البلاغة النبوية. ١ أي: في السياستين البيانية، والمنطقية، كما سنذكره بعد، وهاتان الكلمتان هما طرفا التعبير النفسي لما يقال له في العرف: البيان والبلاغة. ٢ قال ضياء الدين بن الأثير المتوفى سنة ٦٣٧هـ "وهو صاحب كتاب "المثل السائر" وكان من مجتهدي أئمة البلاغة في هذه الأمة، لا يسكن بعلمه إلى التقليد، وله في إدراك الأسرار البيانية حسن عجيب": إنه عثر قبل أن يضع كتابه "المثل السائر" على ضروب كثيرة من العلم والبيان فيما انطوى عليه القرآن الكريم، قال: "ولم أجد أحدًا ممن تقدمني تعرض لذكر شيء منها، وهي إذا عدت كانت في هذا العلم بمقدار شطره. وإذا نظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره". وقد كان ضياء الدين هذا يختم القرآن مرة في كل أسبوع ليبلغ به، ثم نظر فيه فجعل يقرؤه المرة في شهر, ثم أبعد في النظر فكان يختمه في سنة، ثم أمعن فقال إنه قطع سبع سنين ولما يفرغ منه ولا أتى على الغاية من تدبر ما فيه من البلاغة المستكنة في كلمه وحروفه. فإذا قدرنا عدد كلمات القرآن، وهي سبع وسبعون ألفًا ونيف، على أيام هذه السنين، على أن يكون الرجل قد أشرف على ختم القرآن، وضربنا بالحصص على تلك الأيام، خرج لكل يوم نيف وثلاثون كلمة، أي: مقدار ثلاثة أسطر، يتأملها هذا الإمام المفكر البليغ ويتدبر أسرار بلاغتها، مع أنه لا يبحث منها إلا في الصناعة البيانية وحدها، دون أسرار التركيب الأخرى من علمية واجتماعية إلخ إلخ. وروي أن ابن عطاء الصوفي أحمد بن محمد سهل المتوفى سنة ٣٠٩هـ قرأ القرآن يستنبط المعاني المودعة فيه ويستروح إليها، فبقي في ختمة واحدة بضع عشرة سنة، ومات ولم يتمها. وهو من جلة مشايخ الصوفية، لم ير فيهم أفهم منه. وقد سئل عن التصوف ما هو؟ فقال: اتفقت أنا والجنيد على أن التصوف نزاهة طبع كامنة في الإنسان، وحسن خلق تشتمل على ظاهره، وهذا أبدع ما رأيناه في المعنى. وهذا "يعني ضرورة التأني وإبعاد النظر" هو سر الخيبة التي يبوء بها من يطلب وجوه الإعجاز البياني إذا التمسها في "الكشاف" للإمام الزمخشري المتوفى سنة ٥٢٨هـ مع كثرة ما عرض -رحمه الله- من الدعوى خطبة كتابه؛ لأنه فرغ من هذا الكتاب كما قال في "مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سنتان وثلاثة أشهر وعشرون يومًا على أوسع التقدير"، قال: وكان يقدر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، فانظر مبلغ عمل الرجل من مبلغ أهله، على أن له في كتابه حسنات رحمه الله وأحسن إليه. وقد رأينا في "كشف الظنون" أن شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة ٧٤٣هـ وضع شرحًا على الكشاف في ست مجلدات ضخمة، وأكثر فيها من إيراد النكت البيانية، وكانت أكثر ما جاء به. وهذا الشرح قد أومأ إليه ابن خلدون في موضع من مقدمته، وقال إنه شرح فيه كتاب الزمخشري وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها "وبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة" فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة ا. هـ. فتأمل كيف تتصرف بلاغة القرآن مع أهل السنة والمعتزلة مجاذبة ودفعًا فإنه معنى عجيب.