ومن أعجب ما اتفق أن المتأخرين من ناظمي البديعيات كعز الدين الموصلي وابن حجة الحموي، وغيرهما، عدوا تمام الفضيلة في عملهم أن ينظموا البيت على النوع من أنواع البديع، ثم يذكروا اسم النوع في البيت وبالتورية وهذا بعينه استخرجه الشهاب الخفاجي من القرآن في قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا "يَلْتَفِتْ" مِنْكُمْ أَحَدٌ} وهذا النوع هو "الالتفات" لأن السياق يحتمل أن يكون "ولا يلتفت منهم" فعدل عن الغيبة إلى الخطاب، وهذا طريف جدا كما ترى. ٢ سمينا البلاغة العربية في بعض ما كتبناه من فصولنا "باللغة الخاصة"، تخرج من اللغة العامة التي هي العربية على إطلاقها. وقلنا في تلك اللغة الخاصة أنه يحتال بها على اختصار الطريق في أداء المعاني إلى النفس؛ وإلقاء هذه المعاني إليها في سمو يعلو أو سمو ينزل؛ في فخامة وروعة؛ أو سذاجة وطبيعة؛ فإن أكبر الكبير في سموه كأصغر الصغير في إدراكه. وإن بناء هذه اللغة قائم على تأليف أسرار المعاني وترجمتها للنفس ترجمة موسيقية، بالتشبيه والمجاز والكناية والاستعارة وغيرها، وبهذه اللغة الدقيقة في التركيب. والدلالة يكتب الكاتب وينظم الشاعر؛ فتكون طبائع المعاني كأنها هي التي تتكلم؛ وتخرج الصور الكلامية وكأنها ضرب من الخلق العقلي؛ فيه الجلال والرهبة والإقناع، بل فيه شيء من الإيمان بالقوة الغامضة، بل فيه شيء من هذه القوة الغامضة يصل بين سر المعنى وسر النفس.