للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اصطلاحهم أنفسهم على أنه من البلاغة١.

ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة؛ لأنها استعارة أو بالمجاز لأنه مجاز، أو بالكناية لأنها كناية، أو ما يطرد مع هذه الأسماء والمصطلحات إنما أريد به وضع معجز في نسق ألفاظه وارتباط معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق، فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير، ويتجوز حيث يتجوز، ويطنب ويوجز ويؤكد ويعترض ويكرر إلى آخر ما أحصي في البلاغة ومذاهبها؛ لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزًا في جهة من جهاته ولاستبان فيه ثمة نقص يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكمل منه وأبلغ في القصد والاستيفاء.

فالعلماء يقولون إن كل ذلك فنون من البلاغة وقع بها الإعجاز؛ لأنهم اصطلحوا على هذه التسمية التي حدثت بعد العرب، ولو قالوا إن القرآن معجز في العربية؛ لأن الفطرة والعقل لا يبلغان مبلغه في سياستي البيان والمنطق بهذه اللغة، لكان ذلك أصوب في الحقيقة، وأبلغ في حقيقة الصواب، وأمكن في معنى الإعجاز، وأتم في هذا الباب كله، ما دام في لسان الدهر حرف من العربية٢.

واعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجاز القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياستين، والتأني إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه، وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورة الكلام على ذلك إلا تأمله على هذه الوجوه، وإطالة النظر في كل معنى من معانيه، وفي


١ بل إن في القرآن شيئًا مما لا يتفق للناس إلا صناعة، ولم يكن يعرفه العرب ولا انتبهوا إليه، كهذا النوع البديعي الذي يسمونه "ما لا يستحيل بالانعكاس" وهو الذي يقرأ من أوله وآخره سواء، فمنه في القرآن قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَك} وقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر} على أن كل مثل يتفق من ذلك وشبهه إنما هو من العذوبة والسلاسة والانسجام كما ترى آية في آية.
ومن أعجب ما اتفق أن المتأخرين من ناظمي البديعيات كعز الدين الموصلي وابن حجة الحموي، وغيرهما، عدوا تمام الفضيلة في عملهم أن ينظموا البيت على النوع من أنواع البديع، ثم يذكروا اسم النوع في البيت وبالتورية وهذا بعينه استخرجه الشهاب الخفاجي من القرآن في قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا "يَلْتَفِتْ" مِنْكُمْ أَحَدٌ} وهذا النوع هو "الالتفات" لأن السياق يحتمل أن يكون "ولا يلتفت منهم" فعدل عن الغيبة إلى الخطاب، وهذا طريف جدا كما ترى.
٢ سمينا البلاغة العربية في بعض ما كتبناه من فصولنا "باللغة الخاصة"، تخرج من اللغة العامة التي هي العربية على إطلاقها. وقلنا في تلك اللغة الخاصة أنه يحتال بها على اختصار الطريق في أداء المعاني إلى النفس؛ وإلقاء هذه المعاني إليها في سمو يعلو أو سمو ينزل؛ في فخامة وروعة؛ أو سذاجة وطبيعة؛ فإن أكبر الكبير في سموه كأصغر الصغير في إدراكه. وإن بناء هذه اللغة قائم على تأليف أسرار المعاني وترجمتها للنفس ترجمة موسيقية، بالتشبيه والمجاز والكناية والاستعارة وغيرها، وبهذه اللغة الدقيقة في التركيب. والدلالة يكتب الكاتب وينظم الشاعر؛ فتكون طبائع المعاني كأنها هي التي تتكلم؛ وتخرج الصور الكلامية وكأنها ضرب من الخلق العقلي؛ فيه الجلال والرهبة والإقناع، بل فيه شيء من الإيمان بالقوة الغامضة، بل فيه شيء من هذه القوة الغامضة يصل بين سر المعنى وسر النفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>