للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفس به، أو تدافعه، وتلتوي عليه من قبله؛ ثم طبقات هذا المعنى بعينه، وتقديرها على طبقات الأفهام، واعتبارها بما هو أبلغ في نفسه وأعم في وضعه، ثم وجه ارتباط ذلك بما قبله، واندماجه فيما بعده، ومساوقته لأشباهه ونظائره حيث اتفق منها في الكلام شيء. ثم تدبر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصالتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغل في الوجوه التي من أجلها اختير كل لفظ في موضعه، أو عدل إليه عن غيره، من حيث موافقته لمعنى الجملة ونظمها، ومن حيث دلالته في نفسه، وملاءمته لغيره، ثم النظر في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصيغ التي أقيمت عليها اللغة ووجه اختيار الحرف أو الصيغة، وموضع ذلك في الغناء والإبلاغ في الدلالة من سواه، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، ما هو خاص بهذه الطريقة حسب ما توجهه المعاني، فإن كل ذلك في القرآن الكريم على أتمه، وليس فيه اضطراب أو التواء، ولا يجوز فيه عذر ولا تسويغ، وهو منه بحيث يدعو بعضه إلى بعض، مما ينفي عنه التصنع والتكلف والمحاولة، ويدل على أنه كالمفرغ جملة واحدة، ثم هو أمر لا يجتمع ألبتة في كلام أحد من الناس ولا يستوسق على البلاغة الإنسانية. وما علوم البلاغة كلها إلا بعض الوسائل في التنبيه إليه، فهي تعطي القدرة على النظر والفهم ولكنها لا تعطي بمقدار ذلك في العمل والصنعة.

ومهما كان العرب من الرياضة والتمرين واعتياد النفس وإدمان الدربة وذكاء الفطر ودقة الحس، فإن هذه كلها تجري مجرى تلك العلوم في نسبة القدرة على الفهم إلى القوة على العمل. الناس كلهم علم واحد١ في أن هؤلاء العرب جميعًا يفهمون الشعر، ولكنا لم نجدهم كلهم شعراء، ورأينا الشعراء منهم متفاوتين وعرفنا التفاوت بينهم واضحًا، حتى لينفرد الواحد من الجميع في فن من أغراض الشعر، ثم لا يبينه منهم إلا بلاغة التراكيب؛ ومبلغ قوته في سياستي البيان والمنطق، وما قلناه في الشعراء فهو في صدقه على الخطباء هو بعينه، والخطابة أمس بما نحن فيه وأدنى إلى القصد منه، لا يقطعها من دونه ما عسى أن تنقطع عنده الحجة في الشعر، وإن كان الباب واحدًا.

وأنت إذا اعتبرت القرآن على تلك الوجوه التي فصلناها، رأيته أعلى من البلاغة التي وضعت لها تلك الفنون، فإن هذه من بيان اللسان الذي لا يرتفع عن طبقة اللغة ولا يخرج من وجوه العادة في تصريفها، وسنن أهلها في إبراز معانيها، وهذا أمر يقع فيه التفاوت، ويخرج بعضه إلى الإحكام وبعضه إلى التسامح وبعضه أمر بين ذلك؛ لأن حالات المعاني مختلفة مع النفس فبعضها ما ينقاد، وبعضها مما يستكره؛ ثم النفوس مختلفة على حسب ذلك جمامًا ونشاطا أو ضعفًا وتخاذلًا، ومهما يكن في آثارها من بلاغة المعاني وإحكامها ورونق العبارة ونظامها، فإن نفسًا أنفذ من نفس، وحسا أدق من حس، وقوة أبلغ من قوة، وإحاطة أوسع من إحاطة.

ومن ههنا نجد العبارة البليغة الواحدة كثيرًا ما تقع المواقع المختلفة على طبقات متعددة في أهل النظر حين يتأملونها ويصفونها، فإن بقيت على بلاغتها مع جميعهم لم يردها أحد ولا أنكرها، فلا بد


١ أي: هذا أمر معروف للناس جميعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>